تفاوت سعي بني آدم
عدت منتداي الغالي من جديد وكل شوق لجديكم المفيد تقبلوني ....
يقول الله-جلّ جلاله-في كتابه العزيز: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}[الليل:4]، فأخبرنا ربنا أنّ سعينا في هذه الدنيا مختلف، سَعْينا شتّى، كلٌّ مُيَسّرٌ لما خُلِق له، فمن عباد الله من سعيه في هذه الدنيا فيما يزكِّي نفسه، وفيما يخلِّصها من عذاب الله، وفيما يطهّرها من أدران الذنوب والمعاصي، وفيما يصعد بها إلى الكمال؛ لتكون نفسًا لوَّامة تلوم على ترك الخير، ثم نَفْسًا مطمئنة بالخير راضية به. ومن عباد الله من سعيه في الباطل، سعيه فيما يُدنِّس نفسه، وفيما يذلّ نفسه، وفيما يكسبها الهوان والذلّ، وفيما يُوقِعها في عذاب الله، سعيه في الأرض فسادًا، وسعيه إجرامًا، وسعيه ضررًا على نفسه وعلى أهله وعلى من صحبه ومن شاركه، فلا تراه يفعل الخير جهده، بل يسعى في الباطل، ويستبرئ الأخطاء، ويرتاح بالإجرام، فلا تطمئن نفسه إلا بيوم هو فيه مجرم، وهو فيه آثم، وهو فيه مُقترِف للمحرمات، وهو فيه فاعل للمعاصي والسيئات، وساع في الأرض فسادًا بأي أنواع الفساد، وصدق رسول الله حيث يقول: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، كلٌّ يسعى، فساع في إصلاح النفس وفي رِفْعتها، وساع إذلالها واحتقارها. ويقول الله-جلّ وعلا-: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:9، 10].
أيها المسلم: نفسك عليك عزيزة، لا تَسْتَرْخِصْهَا في الباطل، ولا تُزهقها في الباطل، وإنما تسعى في الخير جهدك، وتسعى في الخير قدر استطاعتك، وإياك أن تَسْتَرْخِصَ النفس التي اؤتمنت عليها في سبيل الباطل وطاعة الشيطان.
وإن من عباد الله من لا يرتاح إلا بالفساد، لا يمكن أن تطمئن نفسه على خير، ولا يمكن أن يقتنع براحة البال وطمأنينة النفس، لكنه مجرم بطبعه، مجرم بأخلاقه، قد تأصّل الإجرام في نفسه، فلا تردعه موعظةُ واعظ، ولا تؤثِّر فيه ذكرى مذكِّر، إنْ ذكَّرته بآيات القرآن أصَمَّ سمعه عنها، وإن تَلَوَت عليه نصوص السنة أعرض عنها، وإن بيَّنت له منهج سلف الأمة في التعامل مع الخلق سخر بك، واستهزأ بك. لماذا؟ لأنه اقترن مع شياطين الإنس والجن يسُوقُونه إلى الباطل سَوْقًا، ويَزُجُّون به في كل هَوِيّة سَحِيقة، لا يبالون في أي أودية البلاء وقع، وهو لا يشعر ولا يدري ولا يتبصَّر في أمره، وصدق الله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ*وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنفال:22، 23].
وهذا الضرب من الناس عناهم الله بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[البقرة:204-206].
وإن الله-جلّ وعلا- يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً*الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:103، 104]، تلك الخسارة العظمى، يعملون أعمالًا يظنونها صالحة، وهي في واقع الأمر أعمال باطلة، أعمال لا قيمة لها، أعمال حابِطة يوم القيامة؛ لكون هذا العمل لا يوافق شرع الله، لا يوافق كتاب الله، لا يوافق سنة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، سواء كان هذا العمل من أعمال الأمم السابقة الذين أدركوا محمدًا-صلى الله عليه وسلم-ولم يؤمنوا به، واستمروا على ما هم عليه، فإن من أدرك محمدًا فلم يؤمن به فإنه كافر مهما عمل من الأعمال، أو سواء في ذلك أولئك القوم الذين فهموا الإسلام على غير فهمه الصحيح، كالخوارج الذين ظهر منهم تديّن من صلاة وقراءة قرآن وقيام ليل، إلا أنهم أخطؤوا في فهم الكتاب والسنة، فاستباحوا دماء المسلمين وأموالهم، وسَلُّوا سيوفهم على أهل الإسلام، فقال بعض السلف: إنها في الخوارج الذين عملوا أعمالًا، ولكنها أعمال باطلة؛ لكون هذه الأعمال لم تكن على وَفْقِ على الكتاب والسنة، وإن صلّى أولئك أو صاموا وقرؤوا القرآن، إذا استحلّوا دماء المسلمين وأموالهم صاروا بذلك ضالين مُضلّين، ولهذا أرشد النبي لقتالهم وقال: (لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم من الأجر لَنَكَلُوا عن العمل).
نقلًا من موقع المنبر
للشيخ: عبد العزيز آل الشيخ-حفظه الله- (بتصرف)
الروابط المفضلة