سادسا: مال لا ينتقص
================
يقسم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لن تنقص من مالك .. بمعنى أنه لابد أن يتم التعويض في الدنيا قبل الآخرة .. إما بمال قادم ، أو برفع أمر كنت ستنفق فيه مالك حتما ..والمسلمون لا يحتاجون لقسم رسول الله حتى يصدقوه ، ولكنه يقسم على أشياء قد يتسلل الشك فيها إلى قلوب البعض ، وذلك تأكيدا لها ، وتحفيزا لمن تزعزع قلبه واهتز يقينه.
روى الترمذي و قال : حديث حسن صحيح ، وروى الإمام أحمد أيضا عن أبي كبشة عمرو بن سعد الناري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث أقسم عليهن ، و أحدثكم حديثا فاحفظوه : ما نقص مال عبد من صدقة .....) هذه أول الأشياء التي يقسم الصادق المصدوق عليها في يقين .ثم يقول : ( ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا ..ولا فتح باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) . وكلها أمور تحتاج إلى كثير اليقين ، و إلي عظيم عقيدة.
ترى .. أما زال في القلوب شك؟ أما زال بعضنا حريصا على ماله؟ إن كان الأمر كذلك فإليك وسيلة سابعة من وسائل التحفيز الرباني.
سابعا: القرض الحسن:
====================
في موضوع الحث على الإنفاق يستعمل القرآن ألفاظا عجيبة لا يتخيلها الناس ، ولا يتوقعونها ..انظر إلى كتاب ربك كيف يناديك و ينادي غيرك متلطفا متحببا مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)البقرة..
سبحانك يا الله !! كم أنت كريم !! المال مالك ، والعبيد عبيدك ، ثم أنت سبحانك تستقرضنا من مالك ؟ ثم إذا أقرضناك أموالنا ضاعفت لنا أضعافا كثيرة ؟؟ سبحان الله !! إن إلها بهذه الصفات لجدير أن يعبد ، و أن يحب ، و أن يعظم ، و أن يبجل ..و الآية فعلا عجيبة ، وسياقها مبهر .. و كما تعجبنا منها فقد تعجب منها الصحابة ، لكن انظر إلى التعجب الإيجابي ..روى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إنه لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، و إن الله عز وجل ليريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح .قال : أرني يدك يا رسول الله ! قال عبد الله بن مسعود : فناوله يده ..قال فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي – أي حديقتي – و أرضي ..قال عبد الله بن مسعود : وحائطه فيه ستمائة نخلة ، و أم الدحداح فيه و عيالها ..قال : فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح ! قالت : لبيك ! قال : اخرجي ، فإني قد أقرضته ربي عز وجل.
عطاء في كرم ، وقرار في حسم ! لقد كان أبو الدحداح الأنصاري معطاء بشكل عجيب ..روى الإمام مسلم عن جابر ابن سمرة رضي الله عنه قال : ( لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة أبي الدحداح رضي الله عنه قال : ( كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح ) ) كم من فروع نخيل لأبي الدحداح في الجنة !!
يذكر الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم سبب ذلك فيقول : إن يتيما خاصم أبا لبابة رضي الله عنه في نخلة ، فبكى الغلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم له :-أي لأبي لبابة – أعطه إياها و لك بها عذق في الجنة ..فقال : لا ..فسمع أبو الدحداح، فاشتراها من أبي لبابة بحديقة له !! ثم قال : يا رسول الله ، إلي بها عذق في الجنة إن أعطيتها اليتيم؟ قال: نعم ..ثم قال: ( كم من عذق معلق في الجنة لأبي الدحداح ) ..ثم مرت الأيام و ذهب أبو الدحداح ، وذهب الغلام ، وذهب الحائط ، وذهبت النخلة ، ولكن ماذا بقى؟ بقى عذق أبي الدحداح في الجنة ..( ما عندكم ينفذ وما عند الله باق )
فارق كبير جدا بين رد أبي الدحداح للآية الكريمة : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) و بين ردة فعل اليهود لما أنزلت الآية نفسها ..قالت اليهود : يا محمد ، افتقر ربك فسأل عباده القرض؟
انظر إلى سوء الأدب، وفظاظة اللفظ، ووقاحة الفعل! فأنزل الله عز وجل : (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) آل عمران.
ولا يمكن لمثل تلك النفوس المريضة أن تبصر جلال الحكمة و الكرم الإلهيين من وراء سؤال المؤمنين القرض الحسن ..فحقيقة الأمر أن الله قد رفع –كثيرا – من شأن عباده يوم جعل إنفاقهم في سبيله قرضا حسنا يسألهم إياه ..مع أنه صاحب الفضل و العطاء أولا و آخرا .. ومع أنه الغني عن عباده ، وهم جميعا فقراء إليه.
إن الله تبارك و تعالى يعلم حرص النفس الإنسانية على المال ، وحبها له ، فيعطف – سبحانه – على هذه الغريزة في عباده مصورا إنفاقهم في سبيله بصورة القرض الحسن!!
ولا يملك المؤمن – إن فقه هذا المعنى – إلا أن يذوب حياء من ربه ، ويفيض عطاء و إنفاقا لماله في سبيل رضا مولاه1
لقد كان استشعار الصحابة رضوان الله عليهم بالغا لهذا المعنى ( معنى إقراض الله ) فها هي آيات الكتاب الحكيم تواصل حثهم و تحفيزهم بمثل قوله تعالى : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده و يأخذ الصدقات ) فصاروا يوقنون بوقوع الصدقة في يد الله – سبحانه – قبل أن تقع في يد الفقير..
ثامنا : بين وعد الفضل ..ووعد الفقر
=========================
جعل الله الإنفاق في سبيله اختبارا حاسما تختار فيه بين وعد الله ووعد الشيطان ..يقول عز وجل : (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)البقرة.
انظر أيهما تصدق ..استقرضك الله مالا لفلسطين ..فجاء الشيطان فقال : لا تنفق كثيرا ، حتى لا تفتقر ..ما زلت تحتاج إلى كذا وكذا ..مازال هناك طعام وشراب .. ما زال هناك بيت و سيارة ..مازال هناك سفر ومشاريع ..مازالت هناك زوجة و أولاد ..و يعظم المسألة في ذهنك تماما حتى تثاقل إلى الأرض ، وترضى بالحياة الدنيا من الآخرة ، ثم من الناحية الأخرى ..فإن الله يعدك أن يخلفك خيرا مما أنفقت في الدنيا و في الآخرة ..ويبارك لك في مالك و أهلك ..ويضاعف لك أضعافا كثيرة ..وفوق ذلك رحمة و توبة و مغفرة ..وفوق كل ذلك جنة ونعيم ..عليك أن تعرض المقارنة على ذهنك بسرعة كسرعة أبي الدحداح ، فستمر الأيام ، وتذهب أنت ، ويذهب المال ، و يذهب أهل فلسطين ..و لايبقى إلا ما عند الله ، فآثروا ما يبقى و يدوم على ما يفنى وينعدم.
الروابط المفضلة