يقدم في الأخطار ويؤخر في المنافع

للعلامة: ابي الحسن الندوي

وقد كان النبي e لدى جميع مناسبات الراحة والعطايا والجوائز والشرف يؤخر دائماً أقرباءه، ويؤثر عليهم غيرهم، خلافاً لعادة عامة الملوك والسلاطين، وطريقة الحكام والزعماء السياسيين .
(( عن علي بن أبي طالب y أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فبلغها أن رسول الله e أتي بيبي، فأتته تسأله خادماً، فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النبي e فذكرت ذلك عائشة له، فأتيا وقد دخلنا مضجعنا، فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما، حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتماه، إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتماه ))(1) .
وفي رواية أخرى أخرجها أحمد من وجه آخر عن علي y في هذه القصة، وفيها: (( والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم ))(2) .
وهنا نماذج من شأنه e مع أحب الناس إليه من أهل بيته وأبناء أسرته، وما هي الحياة التي كان يحبها لهم ونمط العيش الذي يعيشونه، وإلى القراء بعض المقتطفات:
1- عن ابن عمر: أن النبي e كان إذا خرج كان آخر عهده بفاطمة عليها السلام، فإذا رجع كان أول عهده بفاطمة عليها السلام، فلما رجع من غزوة تبوك، وقد اشترت مقينعة فصبغتها بزعفران، وألقت على بابها ستراً، أو ألقت في بيتها بساطاً، فلما رأى ذلك النبي e، رجع فأتى المسجد، فقعد فيه، فأرسلت إلى بلال، فقالت: اذهب فانظر ما ردَّه عن بابي؟ فأتاها فأخبرها، فهتكت الستر وكل شيء أحدثته، وألقت ما عليها، ولبست أطمارها، فأتى النبي e فأخبره، فجاء حتى دخل عليها، فقال: كذلك كوني فداك أبي وأمي ))(3)
2- عن ابن عمر: أن النبي e جاء إلى منزل فاطمة عليها السلام، فرجع ولم يدخل، وجاء علي عليه السلام، فذكرت ذلك له، فذكر ذلك لرسول الله e فقال: إني رأيت على بابها ستراً وما لي وللدنيا، قال: وكان الستر موشّى، قال: فذكر ذلك علي لفاطمة عليهما السلام، فقالت: يأمرني بما أحب، فذكر ذلك علي لرسول الله e فقال: ابعثوا به إلى آل فلان، فإن بهم إليه حاجة . (4)
3- عن ثوبان مولى رسول الله e قال: كان رسول الله e إذا سافر كان آخر عهده من أهله بفاطمة عليها السلام، وأول من يدخل عليها إذا قدم، فقدم من غزاة، وقد علقت مسحاً أو ستراً على بابها، وحلًت الحسن والحسين عليها السلام قلبين من فضة، فقبض ولم يدخل، فظنت أنه إنما منعه أن يدخل ما رأى، فهتكت الستر وفككت القلبين عن الصبين، فبكيا وقطعته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله e وهما يبكيان، فأخذهما منهما، فقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى فلان أو فلان أو إلى أبي فلان - قال: أهل بيت في المدينة – إن هؤلاء أهل بيتي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج (5) .
هذه الطبيعة النبوية التي يشارك فيها جميع الأنبياء تتجلى في كلامه الذي أثر عنه، والذي جاء فيه:
((إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة ))(6)
ولم يكتف بهذا فقط، بل آثر حياة الزهد والقناعة، والبذل والإيثار لأهله وآله إلى يوم القيامة، وجعل ذلك دعاءً من الله لهم، فكان دعاؤه: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً))(7) .


===========

(1)الجامع الصحيح / كتاب الجهاد
(2) فتح الباري 7/ 23-24
(3)البخاري وأبو داود وساقه ابن شاهين من طريق القلوسي .
(4) المصدر السابق ص 57
(5)المصدر السابق ص 57 - 58
(6) صحيح البخاري وسنن أبي داود
(7) صحيح البخاري / كتاب الرقائق، وصحيح مسلم /كتاب الزهد .

النجاة وارقي في الإسلام

يتوقفان على الكفاءة الذاتية، والسعي الشخصي

هل كان يمكن في مثل هذه الحالة أن يهيئ النبي e أسباب دولة وراثية أو حكومة شخصية لأفرد أسرته وأقربائه، ويجعل الخلافة والإمامة محدودة محفوظة فيما بينهم(1)، والواقع أنه كان من المناسب جداً للنبي e أن يجعل ميدان العلم والعمل والسعي والجهد مفتوحاٌ، للحدب على عمومية الدين والإبقاء على مبادئ الإسلام للمساواة الإنسانية والإعلان الواضح عن مقياس الكرامة والفضيلة في قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]
ولتكافؤ الفرص لجميع أفراد الأمة المحمدية في كل زمان للتوصل إلى أسمى المنازل الروحانية والمناصب الدنيوية، بفضل أعمالهم ومساعيهم وعلمهم وإخلاصهم، وبقدر مؤهلاتهم، ولإثارة دافع العمل والسباق في الأمة، ويقرع أسماع الأمة النداء القرآني في كل زمان: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]
وقد بين القرآن حقيقة نجاح الإنسان وسعادته وتقدمه، إنما يتوقف على سعيه الخاص الذي يبذله {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى *وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى} [النجم:39- 41] وصرح بأنه لا يحمل أي شخص حمل غيره في الآخرة، وكل شخص مسؤول عن عمله {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام: 164]
وفي الحديث الذي رواه البخاري أن النبي e سمى قبيلة الخاصة بني عبد مناف، وسمى أقرب وأعز أفراد أسرته بأسمائهم وقال: سلوني ما شئتم من مالي، ولا أغني عنكم من الله شيئاً(2)، يقول: (( يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، ويا صفية عمة رسول الله e لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد e سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئاَ)) (3)
بل إنه e ختم على هذا الواقع بقوله: ((من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه))(4)


========
(1) لقد كان علي y فيما تراه الإثنا عشرية وصي رسول الله e، وكان خليفته الأول بلا فصل، والإمام المعصوم وفق نص الرسول والآيات القرآنية، وإن الدنيا لا تستطيع أن تقوم بغير الإمام الذي يجب أن يكون من أهل البيت، وإن حجة الله تعالى لا تكاد تقوم على خلقه ما لم يوجد الإمام وعرفه الناس، فإن الإيمان بهؤلاء الأئمة ومعرفتهم شرط لإيمان المرء (انظر رجال كشي ص 78 – أصول الكافي 104)
(2) يعني لا يغني المرء عند الله تعالى إلا عمله وسعيه .
(3) الجامع الصحيح للبخاري / كتاب التفسير
(4) رواه مسلم .

اللهم صلِ و سلم على سيدنا و حبيبنا محمد..

جزاكم الله خيراً..

شكرا جزيلا على المرور
وعلى التعليق
اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم