جولة عمر رضي اله عنه الرسمية ورحلته إلى الشام

للعلامة: أبي الحسن الندوي

والآن نقدم مثالاً لزهد عمر رضي الله عنه وتقشفه فيما كان يحتاج فيه إلى المظاهر الملوكية والفخفخة، لابد أنَّ القراء اطلعوا على تقارير جولات رسمية لكثير من الملوك ورؤساء الحكومات والجمهوريات، ويكونوا قد شاهدوا مشاهد الشوكة والأبهة للجولات التي يقوم بها أكبر حاكم وأعظم خليفة في القرن السابع الميلادي، وهو الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ركب إلى الشام بمناسبة فتح المقدس في عام 16 هجرية، ونترك المؤرخ يحكي هذه الرحلة العجيبة ويصورها بقلمه البليغ :
((لعل القاريء يتطلع إلى معرفة تفاصيل الجولة التي قام بها عمر الخليفة رضي الله عنه نحو الشام، وقد كانت ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى العدو القوي الذي كان ينتظر أن يرى خليفة الإسلام الذي بعث المهابة في قلوب الناس، ولكن الخليفة خرج في هذه الرحلة دون أن يحمل معه خيمة متواضعة فضلاً عن خدم وحشم وأبهة وشوكة وَوَفدٍ مرافقٍ من كبار المسؤولين والضباط، إنما ركب على فرس متواضع ومعه رجال من المهاجرين والأنصار، غير أن نبأ خروج عمر رضي الله عنه نحو الشام ، كان يملأ القلوب رعباً وهيبة .
نزل بالجابية حيث قضى وقتاً لا بأس به، وكتب كتاب الأمن والصلح ، ثم سار إلى بيت المقدس وقد توجَّى فرسه الذي كان راكباً عليه فأتوه ببرذون، فركبه فجعل يهملج به، فنزل عنه وضرب وجهه، وقال: لا علّم الله من علمك، هذا من الخيلاء، ثم لم يركب برذوناً قبله ولا بعده، وسار مشياً على الأقدام، ولما اقترب إلى بيت المقدس جاءه أبو عبيدة وقادة الجيش ليستقبلوه، ولقد كان قميص عمر فيما إذا رآه النصارى في مثل هذه الحال لم يقيموا له وزناً كبيراً، فقالوا له: لو لبست شيئاً غير هذا وركبت برذوناً لكان ذلك أعظم في أعين الروم، فقال: نحن قوم أعزَّنا الله بالإسلام ، فلا نطلب بغير الله بدلاً)) (1) .
وهذا ما رواه ابن كثير عن هذه الرحلة، يقول:
((قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجابية على طريق إيليا على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطلفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، وطاؤه كساء انبجاني ذو صوف، هو وطأؤه إذا ركب وفراشه إذا نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفاً، هي حقيبته إذا ركب، ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد دَسِمَ وتخرَّق جنبه، فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس، فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروا لي ثوباً أو قميصاً . فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟ قالوا: كتان قال: ما الكتان؟ فأخبروه، فنزع قميصه فغسل ورقع وأتي به، فنزع قميصهم ولبس قميصه، فقال له الجلومس: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئاً غير هذا، وركبت برذوناً، لكان ذلك أعظم في أعين الروم. فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نطلب بغير الله بديلاً، فأتي ببرذون، فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل، فركبه بها، فقال: احبسوا، احبسوا، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا ، فأتي بجمله فركبه)) (2) .
ونبذة عن رحته الثانية في عام 18 هجرية، وقد رواها الطبري، قال:
((خرج عمر وخلَّفَ علياً على المدينة، وخرج معه بالصحابة رضي الله عنهم، وأغذوا بالسير، واتخذ أيلة (على ساحل البحر الأحمر) طريقاً ، حتى إذا دنا منها تنحى عن الطريق، واتبعه غلامه، فنزل فبال، ثم عاد فركب بعير غلامه، وعلى رحله فرو مقلوب، وأعطى غلامه مركبه، فلما تلقاه أوائل الناس ، قالوا: أين أمير المؤمنين ؟ قال: أمامكم (يعني نفسه) فذهبوا إلى أمامهم، فجاوزوه، حتى انتهى هو إلى إيلة ، فنزلها ، وقيل للمتقين: قد دخل أمير المؤمنين إيلة ونزلها، فرجعوا إليه)) (3)




(1)الفاروق / للعلامة شبلي النعماني ج1 ص 142-145
(2)البداية والنهاية ج7 ص 59-60
(3) الطبري ج4 ص 203-204



تعاون عليٌّ رضي الله عنه مع الخلفاء الثلاثة

لقد تعاون علي رضي الله عنه مع الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم ولا سيما الشيخين منهم، فقد أشار عليهم بصواب الرأي في أحرج المناسبات، فاعترفوا بعلمه الغزير وفهمه الدقيق، وإصابته في الرأي، وأثنوا عليه بذلك ثناءً بالغاً .
إن الانطباعات التي أبداها عليٌّ على وفاة أبي بكر الصديق وعلى شهادة عمر إنما تدل على علاقته المخلصة معهم، ونستطيع أن نطلع على الخطبتين اللتين ألقاهما في هاتين المناسبتين في كتب التاريخ، يتجلى فيهما أسلوبه البليغ وخصائصه البيانية واللغوية والبلاغية بكل وضوح، ولا نذكرهما هنا خوفاً من الإطالة (1) .
وقد جاء فيما كتبه أمير علي:
((وافق على خلافة أبي بكر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، علي بن أبي طالب وأعضاء أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم برحابة صدر)) .
أما وليم ميور ، فإنه على رُغم ما تحدث به عن سوء تفاهم بين أبي بكر وعمر حول تركة الرسول الشخصية، أكد مع ذلك زيارة علي لأبي بكر وحضوره لديه، كما كان يحضر عنده الصحابة الآخرون مع قيامه بواجب القضاء الأعلى .
واعترف وليم ميور أيضاً بأن علياً هو الذي كان يردّ على رسائل أبي بكر بوجه عام .
وكذلك تحددث الأستاذ عسكري جعفري في ترجمته الإنجليزية
لكتاب ((نهج البلاغة)) التي نشرتها الجمعية الإسلامية العالمية للشيعة: أن عمر كان يستشير علياً ويقبل آراءه، وحينما استشاره عمر بمناسبة الحرب ضد الإمبراطورية الرومية، أشار عليه ببقائه هناك وإرسال ضابط محنك آخر لقيادة الجيش، وكذلك خالف عليٌّ أن يتجه عمر إلى ميدان القتال بمناسبة معركة حاسمة ضد القوات الفارسية، ونهاه عن ذلك ، ولكي نجد تصديقاً لهذا الجانب المهم نستطيع أن نراجع ((نهج البلاغة)) في خطبتي علي رضي الله عنه رقم 137-149 .
ولما حصر الناس عثمان ومنعمه الماء فأشرف على الناس، فقال : أفيكم عليٌّ ؟ قالوا: لا. قال: أفيكم سعد؟ قالوا: لا، فسكت، ثم قال: ألا أحد يبلغ عليّاً به فيسقينا ماء، فبلغ ذلك علياً، فبعث إليه بثلاث قراب مملوءة ماءً، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبني أمية حتى وصل الماء إليه، وبلغ علياً أن عثمان يراد قتله، فقال للحسن والحسين: إذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه .(2)
ولما حاصر الناس بيت عثمان بعث عليٌّ الحسن ومولاه قنبراً، وأمرهما بمنع الناس عن الدخول على عثمان، ورمى الناس عثمان بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء على بابه، وشج قنبر مولى علي، ولم يتمكن الناس من الدخول على عثمان من ذلك الباب الذي كان عليه الحسن، وتسوَّروا عليه الجدار من خلفه ودخلوا عليه، وقتلوه وهو يتلو القرآن .



(1) ((الرياض النضرة في فضائل العشرة )) مخطوطة ، والطبقات الكبر لابن سعد 3/370
(2) (3)تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 159 - 160