التلقي عن المبتـدع







احذر أيها الطالب: أن تتلقى العلم عن المبتدعين، الذين خالفوا منهج أهل السنة والجماعة في عقيدتهم ومنهجهم وسلوكهم.
قال الثوري -رحمه الله-: "من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروةً عروة".
وقال مالك –رحمه الله-: "لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه، وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس، وإن كان لا يتهم أن يكذب على رســول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصالح عابد فاضـل إذا كان لا يعــرف ما يحدث".[1]
وقال الخطيب –رحمه الله-: "كان الراوي من أهل الأهواء، والمذاهب التي تخالف الحق لم يسمع منه، وإن عُرِف بالطلبِ والحفظ"[2].
وأخرج بسنده -رحمه الله- عن المغيرة عن إبراهيم قال: "كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه، نظروا إلى سمته[3] وصلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه"[4].
وساق ابن بطة –رحمه الله– بسنده عن عمرو بن قيس المُلائي قوله: "إذا رأيت الشاب أول ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة، فارجه، وإذا رأيته مع أهل البدع، فايئس منه، فإن الشاب على أول نشوئه".
وقال –أيضًا-: "إنَّ الشاب لينشأ، فإن آثر أن يُجالس أهل العلم، كاد أن يسلم، وإن مال إلى غيرهم، كاد يعطب"[5].
ثم قال هذا الإمام -رحمه الله-: "فانظروا رحمكم الله من تصحبون، وإلى من تجالسون، واعرفوا كل إنسانٍ بخدنه، وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإياكم من إخوان العابثين، ولا من أقران الشياطين، وأستوهب الله لي ولكم عصمة من الضلال، وعافية من قبح الفعال".
ولذا إنْ ابتليت يا طالب العلم: بإنسانٍ مفارقٍ لجماعة المسلمين باسم أو رسم، فقل له باطمئنان: "هذا فِراقُ بيني وبينك"[6].
ويا أيها الطالب: إذا كنت في السعة والاختيار، فلا تأخذ عن مبتدع رافضي، أو خارجي، أو مرجيء، أو قدري، أو قبوري، ...هكذا، فإنك لن تبلغ مبلغ الرجال صحيح العقد في الدين، متين الاتصال بالله، صحيح النظر، تقفو الأثر، إلا بهجر المبتدعة وبدعهم.
وكتب السير والاعتصام بالسنة، حافلة بإجهاز أهل السنة على البدعة، ومنابذة المبتدعة، والابتعاد عنهم كما يبتعد السليم عن الأجرب المريض، ولهم قصص وواقعات يطول شرحها، لكن يطيب لي الإشارة إلى رؤوس المقيدات فيها:
فقد كان السلف -رحمه الله-: يحتسبون الاستخفاف بهم، وتحقيرهم، ورفض المبتدع وبدعته، ويحذرون من مخالطتهم، ومشاورتهم، ومؤاكلتهم، فلا تتوارى نار سني ومبتدع.
وكان من السلف من لا يصلي على جنازة مبتدع، فينصرف...، وكان من السلف من ينهى عن الصلاة خلفهم، وينهى عن حكاية بدعهم، لأن القلوب ضعيفة، والشبهة خاطفة، وكان سهل بن عبد الله التستري، لا يرى إباحة الأكل من الميتة للمبتدع عند الاضطرار، لأنه باغٍ، لقول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} الآية، فهو باغٍ ببدعته[7].
وكانوا يطردونهم من مجالسهم، كما في قصة الإمام مالك –رحمه الله- مع من سأله عن الاستواء، وفيه بعد جوابه المشهور: "أضنك صاحب بدعة" وأمر به فأخرج.
وأخبار السلف متكاثرة في النفرة من المبتدعة وهجرهم، حذرًا من شرهم، وتحجيمًا لانتشار بدعهم، وكسرًا لنفوسهم حتى تضعف عن نشر البدع، ولأن في معاشرة السني للمبتدع تزكية له لدى المبتدئ.
والعامي: مشتق من العمى وهو بيد من يقوده غالبًا.
ونرى في كتب المصطلح وآداب الطلب، وأحكام الجرح والتعديل: الأخبار في هذا.
فيا أيها الطالب: كن سلفيًا على الجادة، واحذر المبتدعة أن يفتنوك، فإنهم يوظفون للاقتناص والمخاتلة سُبلاً، يفتعلون تعبيدها بالكلام المعسول، وهو: عَسَلٌ مقلوب، وهطول الدمعة، وحسن البزة، والإغراء بالخيالات، والإدهاش بالكرامات، ولحس الأيدي، وتقبيل الأكتاف. وما وراء ذلك إلا وحم البدعة، ورهج الفتنة يغرسها في فؤادك، ويعتملك في شراكه، فو الله لا يصلح الأعمى لقيادة العميان وإرشادهم، وأما الأخذ عن علماء السنة، فالعق العسل ولا تسل. وفقك الله لرشدك، لتنهل من ميراث النبوة صافيًا، وإلا فليبك على الدين من كان باكيًا.
وما ذكرته لك هو في حال السعة والاختيار، أما إن كنت في دراسة نظامية لا خيار لك، فاحذر منه، مع الاستعاذة من شره باليقظة من دسائسه على حدِّ قولهم: "اجْنِ الثمار، وألقِ الخشبة في النار"، ولا تتخاذل عن الطلب، فأخشى أن يكون هذا من التولي يوم الزحف، فما عليك إلا أن تتيقن أمره وتتقي شرَّه.
وما سطرته لك هنا هو من قواعد معتقد أهل السنة والجماعة، ومنه ما في العقيدة السلفية، لشيخ الإسلام: أبي إسماعيل عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني المتـوفى سنة 449هـ -رحمه الله-:
"ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا من الدين ما ليس منه، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم، ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرَّت في القلوب ضرّت وجرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرَّت، وفيه أنزل الله عزّ وجل قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الآية:68 من سورة الأنعام][8]
قال الإمام الشوكاني –رحمه الله–مفسرًا لهذه الآية: "والمعنى: إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد والاستهزاء، فدعهم ولا تقعد معهم لسماع مثل هذا المنكر العظيم، حتى يخوضوا في حديث مغاير له.
وفي هذه الآية: موعظة عظيمة لمن يتسامح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله، ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله، ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة، وبدعهم الفاسدة، فإنه إذا لم ينكر عليهم، ويغير ما هم فيه، فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم، وذلك يسير عليه غير عسير. وقد يجعلون حضوره معهم مع تنـزهه عما يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة، فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر"[9]
وقال الإمام النووي-رحمه الله- في كتاب الأذكار: باب التبري من أهل البدع والمعاصي، وذكر حديث أبي موسى –رضي الله عنه-: (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برئ من الصالقة والحالقة، والشاقة)متفق عليه.
"وعن ابن عمر رضي الله عنهما-: براءته من القدرية" رواه مسلم[10]
والأمر في هجر المبتدع: ينبني على مراعاة المصالح وتكثيرها، ودفع المفاسد وتقليلها، وعلى هذا تتنـزل المشروعية من عدمها، كما حرره شيخ الإسلام ابن تيـمية –رحمه الله –في مواضع من كتبه.
والمبتدعة إنما يكثرون ويظهرون إذا قل العلم، وفشا الجهل، وفيهم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:
"فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها، من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال"[11].
فيا أيها الطالب: تبين لك مما سبق أن اختيار الشيخ الناصح سليم العقيدة والمنهج من ضروريات أصالة الطلب، ولأن الشيخ قدوة السالك، وحادي الطالب، ونجمه المنير المتبع، فكن يا طالب العلم من أهل الأهواء والبدع على حذر، "فإذا اشتد ساعدك في العلم، فاقمع المبتدع وبدعته بلسان الحجة والبيان". والســلام[12].



المرجع: من فقه الطلب