الحمد لله الذي له العزة و الجبروت، وبيده الملك و الملكوت ، وله الأسماء الحسنى و النعوت، العالم فلا يغرب عنه ما تظهره النجوى أو ما يخفيه السكوت، القادر فلا يعجزه شيء في السماوات والأرض ولا يفوت، أنشأنا من الأرض نسما، واستعمرنا فيها أجيالا و أمما، و يسر لنا منها أرزاقا و قسما، تكنفنا الأرحام و البيوت، و يكفلنا الرزق و القوت، وتبلينا الأيام والو قوت، وتعتو رنا الآجال التي خط علينا كتابها الموقوت ، وله البقاء و الثبوت، وهو الحي الذي لا يموت، و الصلاة والسلام على سيدنا و مولانا محمد النبي العربي المكتوب في التوراة و الإنجيل المنعوت، الذي تمخض لفصاله الكون قبل تعاقب الآحاد و السبوت، وعلى آله وأصحابه الذين لهم في صحبته و إتباعه الأثر البعيد والحميد ، الذي داولته عنهم الأمم الأجيال,وشدت إليهم الركائب و الرحال...
الحمد لله الذي و فقني لأن أتم هذا العمل المتواضع لكي أضعه بين أيديكم ليستفيد منه العام و الخاص، راجية من الله أن أكون قد قمت بعملي على أكمل وجه.
فالشمستشرق في الصباح ، وتغيب في المساء.. الليل والنهار يتعاقبان بصورة منتظمة و رائعة تتجسد أمامنا كل يوم.. والمطر ينزل من السماء، من بضع غيوم تكونت نتاجا لتبخر مياه البحار و الأنهار و المحيطات .... والزرع يخرج من من تراب أرض واحدة هو تراب كوكبنا الحي،..ويُسقى بماء واحد، ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة،وله تكوين يختلف عن الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع .. ويأتيموسم الزراعة فيعود من جديد.
كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا، ويعلمنا شيئا واحدا :أنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق شيئامما فيه .. فالقضية محسومة لله.
(والحمد لله) لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري، ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه..
كل شيء في هذا الكون يتحدث عن شيء واحد،فمهما اختلفت اللهجات و نبرات الصوت إلا أن موضوع الكلام واحد، فأنت حين ترى زهرة جميلة مثلاً، أو زهرة غاية في الإبداع، يشيع في نفسك الجمال ... فتقول: ما أجمل هذه الزهرة!! وتقول إنها في قمة الروعة و الحسن و ،..........و...........و..........و.........و..... ..ولكن المخلوق الذي امتدحته،هل أعطى صفة الجمال لنفسه؟
حين ترى تشكل السحاب في السماء و تتابع مراحل تشكل الأمطار بدقة متناهية، من بدايتها إلى نهايتها، ألا يجول في خاطرك سؤال: من وضع هذه القوانين الكاملة؟؟؟.
دعونا من كل هذه الأمور و لنسلط الضوء على الجانب الأقرب إلينا، نحن كلنا بشر، و من منا لا يعرف طرق تشكيل الجنين في بطن أمه؟؟ولكن هناك العديد من يقول أنها خاضعة لتصرف دماغ الإنسان فهو الذي يسير مراحل تكون الإنسان؟ حسنا سنسألك عن شيء واحد متى تنتهي وظيفة " الوالدين" في تشكل الجنين؟؟
إن أنت أجبت أن وظيفة الأم(تشكل الجنين) لن تنهي إلا عند ولادته فهذا خطأ كبير...و سأشرح لك.
1-إذا كانت الأم هي من تسير مراحل تكون الجنين في بطنها فلماذا نرى العديد من النساء يسعين وراء إنهاء مشكلة عدم القدرة على الحمل.؟؟؟
2- إذا كانت الأم هي من تسير مراحل تكون الجنين في بطنها فلماذا تشرب بعض النساء الحبوب المانعة للحمل، لماذا لا تمنعه بتصرف من دماغها أو أمر منه؟
3- إذا كانت الأم هي من تسير مراحل تكون الجنين في بطنها فلماذا لا تحدد بدقة زمن الحمل بالدقائق و الثواني، و لماذا لا تحدد زمن الولادة بدقة متناهية؟؟
4-إذا كانا الوالدين هما من يسيرا الجنين فلماذا لا يحددان ما يريدان أنثى أم ذكر؟
5- إذا كانا الوالدين هما من يسيرا الجنين فلماذا لا يعجلان من مدة تكونه بدل 9 أشهر إلى شهرين أو أسبوعين أو حتى يوم ماداما هما المسيران؟
إنهما لا يستطيعان، هل تعلم لماذا؟؟؟، لأن كل هذا خاضع لقوة و تسيير و سيطرة و منهج واضح دقيق و كامل،إنه منهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد، فهو تبارك وتعالى أنزل منهجه ليرينا طريق الخير، ويبعدنا عن طريق الشر.
هل تعلم لماذا يقتضي منا الحمد؟، سأضع أمامك مثالا:
أنت تأخذ مثلا 30مترا مكعبا من الأكسجين، إذا لم تكن رئتاك تلقائيا و كان يستوجب عليك إن أردت أن تعيش أن تضخ الأكسجين بنفسك إلى داخل جسمك و أن تأمركل كرية دموية في جسمك بنقله إلى كل خلية، ثم تنتقل إلى جهازك الهضمي فتفرز كل هرمون خاص بالغذاء الذي تناولته، ثم تقوم بنقلالرسائل العصبية،و،و....، لو كانت حياتنا تقتضي كل هذا لنعيش، لن نستمر أكثر من نصف يوم أو أقل،....إن جسمك يقوم بكل هذه الأعمال في دقائق و ربما في ثواني...
إذا قام شخص ما بإسداء معروف لك ستشكره و تشكره و تقول له إني مدين لك بحياتي و كذا وكذا،هل رأيت كم من معروف يسديه لك الله الذي خلقك و قهر جسمك ليتصرف بطريقة منظمة و رائعة،فهل شكرته و هل حمدته؟؟؟؟..
فمنهج الله عز وجل الذي أنزله على رسله قد عرّفنا أن الله تبارك وتعالىهو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا .. فدقة الخلق وعظمته تدلنا على عظمةخالقه، ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا، ولذلكأرسل الله رسله، ليقول لنا: إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تباركوتعالى، وهذا يستوجب الحمد.
ومنهج الله يبين لنا ماذا يريد الحق منا، وكيف نعبده .. وهذا يستوجبالحمد، ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا أسلوب حياتنا تشريعاًحقاً .. فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا .. ولا يفضل أحداً علىأحد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام عدله المطلق. إذن: فشريعة الحق،وقول الحق، وقضاء الحق هو من الله، أما تشريعات الناس فلها هوى، تميزبعضاً عن بعض .. وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، ولذلك نجد في كل منهجبشرى ظلماً بشرياً.
ولكن الله سبحانه وتعالى يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم "21"} (سورة الحجر) فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه، والخلق يأخذون دائماً من نعمالله، فالعبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك شيئاً، وهذا يستوجب الحمد..
والله سبحانه وتعالى في عطائه يجب أن يطلب منه الإنسان، وأن يدعوه،وأن يستعين به، وهذا يستوجب الحمد؛ لأنه يقينا الذل في الدنيا. فأنت إنطلبت شيئاً من صاحب نفوذ، فلابد أن يحدد لك موعداً أو وقت الحديث ومدةالمقابلة، وقد يضيق بك فيقف لينهي اللقاء .. ولكن الله سبحانه وتعالى بابهمفتوح دائماً .. فأنت بين يديه عندما تريد، وترفع يديك إلي السماء وتدعووقتما تحب، وتسأل الله ما تشاء، فيعطيك ما تريده إن كان خيراً لك .. ويمنععنك ما تريده إن كان شراً لك.
والله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد حينما يطلب منك أن تدعوه، وأن تسأله فيقول: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين "60"} (سورة غافر)ويقول سبحانه وتعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون "186" } (سورة البقرة)والله سبحانه وتعالى يعف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون تسأل، واقرأ الحديث القدسي: يقول رب العزة: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفذ، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جلجلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانهوتعالى، إذا أراد أن يحققه لك .. واقرأ قول الشاعر:
حسب نفسي عزا بأني عبدهو فـي قدســه الأعـــز ولكــنيحتفي بي بلا مواعيد ربأنا ألقي متى وأين أحبإذن: عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد .. ومنعه العطاء يستوجب الحمد.
ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد .. فالله سبحانهيستحق الحمد لذاته، ولولا عدل الله لبغى الناس في الأرض وظلموا، ولكن يدالله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة .. فيخاف الناس الظلم .. وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله فيالآخرة ليوفيه حسابه .. وهذا يوجب الحمد .. أن يعرف المظلوم أنه سينالجزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه أن هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب فيالنار .. فلا تصيبه الحسرة، ويخف إحساسه بمرارة الظلم حين يعرف أن اللهقائم على كونه لن يفلت من عدله أحد. وعندما نقول: (الحمد لله) فنحن نعبرعن انفعالات متعددة .. وهي في مجموعها تحمل العبودية والثناء والشكروالعرفان .. وكثير من الانفعالات التي تملأ النفس عندما تقول: (الحمد لله)كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه .. هذه الانفعالاتتأتي وتستقر في القلب .. ثم تفيض من الجوارح على الكون كله.
فالحمد ليس ألفاظاً تردد باللسان، ولكنها تمر أولاً على العقل الذييعي معنى النعم .. ثم بعد ذلك تستقر في القلب فينفعل بها .. وتنتقل إلىالجوارح فأقوم وأصلي لله شاكراً ويهتز جسدي كله، وتفيض الدمعة من عيني،وينتقل هذا الانفعال كله إلي من حولي. ونحاول توضيح ذلك..:
تخيل أنني في أزمة أو كرب أو موقف سيؤدي إلي فضيحة .. وجاءني من يفرجكربي فيعطيني مالاً أو يفتح لي طريقاً .. أول شيء أنني سأعقل هذا الجميل،فأقول: إنه يستحق الشكر .. ثم ينزل هذا المعنى إلي قلبي فيهتز القلب إلىصانع هذا الجميل .. ثم تنفعل جوارحي لأترجم هذه العاطفة إلي عمل جميليرضيه، ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلي الالتجاء إليه، فتتسعدائرة الحمد وتنزل النعم على الناس .. فيمرون بنفس ما حدث لي فتتسع دائرةالشكر والحمد..
والحمد لله تعطينا المزيد من النعم مصداقاً لقوله تبارك وتعالى:
{وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد "7" } (سورة إبراهيم)وهكذا نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيداً من النعمة .. فنشكر عليها فتعطينا المزيد، وهكذا يظل الحمد دائماً والنعمة دائمة.
إننا لو استعرضنا حياتنا كلها .. نجد أن كل حركة فيها تقتضي الحمد،عندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا، ثم يردها إلينا عندمانستيقظ، فإن هذا يوجب الحمد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتيلم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلي أجل مسمىإن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "42" } (سورة الزمر)وهكذا فإن مجرد أن نستيقظ من النوم، ليرد الله علينا أرواحنا يستوجبالحمد، فإذا قمنا من الفراش فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطانا القدرةعلى الحركة والنهوض، ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم .. وهذا يستوجبالحمد..
فإذا تناولنا إفطارنا، فالله هو الذي هيأ لنا من فضله هذا الطعام،فإذا نزلنا إلي الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلي مقر أعمالنا، وإذاتحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذي أعطى ألسنتنا القدرة علىالنطق بما وهبه الله لنا من قدرة على التعبير والبيان، وهذا يستوجب الحمد. وإذا عدنا إلي بيوتنا، فالله سخر لنا زوجاتنا ورزقنا بأولادنا، وهذا يستوجب الحمد. إذن: فكل حركة في حياة في الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد، ولهذا لابدأن يكون الإنسان حامداً دائماً، بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله على أيمكروه أصابه؛ لأن الشيء الذي يعتبره شراً يكون عين الخير، فالله تعالىيقول: {.. فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً "19"} (سورة النساء) إن من البشر من إذا تحدثت عنه قدر ما استطعت لن توفيه حقه وتعرف لهقدره كأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، فماذا إذا كان الحديث عنالله جل وعلا؟ سوف يتحدث المتحدثون عن الحق تبارك وتعالى حتى تقوم الساعة، ومع ذلك فسوق يظلون في إطار قوله تعالى:
{ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز "74" } (سورة الحج) وقوله تعالى:
{وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون "67" } (سورة الزمر).
أتعلم أيها القارئ الكريم لماذا كتبت كل هذه المقدمة لأنني أدركت بأنه لك ضمير حي بمجرد دخولك إلى روضة السعداء و أكد لي ذلك مواصلة للقراءة إلى غاية هذه السطور ،ولكن أتسأل لماذا حدثتك عن الله و لم أحدثك عن الإسلام لأن الإسلام بعث لأمرين :
1-أن يتمم مكارم الأخلاق فوضح المعاملات و سوى طرقها و حرم الغش و أكل الربا لأنها صفات مذمومة و غيرها.
2-أن يوطد العلاقة بين الإنسان و ربه فوضع له العبادات المشروعة كالصلاة و الزكاة و الصيام و غيرها ثم أراد أن يقربه إلى ربه فأجاز له النوافل.
إلى غاية هنا أظن بأننا اتفقنا ، حسنا.
[center]مفهوم الإسلام:
في البخاريبسنده قال رسول الله صلى الله عليه ( وآله ) وسلم : من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلكالمسلم له ما للمسلم وعليه ما على المسلم .
وفيه أيضا بالإسناد إلى أبي هريرة قال : كان النبي صلى الله عليه وآله بارزا يوما للناس ، فأتاه رجل فقال : ما الإيمان ؟ قال صلى اللهعليه وآله : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وتؤمن بالبعث . قال : ما الإسلام ؟قال صلى الله عليه وآله : الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به ، وتقيم الصلاة ،وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم
رمضان - الحديث . وآخره ثم أدبر ( يعني السائل ) فقال صلىالله عليه وآله : ردوه ، فلم يروا شيئا ، فقال : هذا جبرائيل ، جاء يعلم الناسدينهم . قلت : وأخرج هذا الحديث مسلم أيضا في صحيحه بطرق مختلفة وأسانيد متعددة، بعضها عن عمر بن الخطاب ، وبعضها عن ابنه عبد الله ، وبعضها عن أبي هريرة ،وفيه شئ ما من زيادة أو نقصان .
تقدّم القول أنّ تعدّد رسل الله واختلاف الأحكام التي جاءوا بها لاينافي وحدة الدين بمعنى الرابطة الوثيقة بين الخالق والمخلوق. وكل كلمةمن الله هي نور بدون اعتبار لزمانها ومكانها أو الأفق الذي أشرقت منه: فالزبور والتوراة والإنجيل والقرآن كلها كلماته ونوره ورباطه الوثيق وعهدهالمصون، كما قال تعالى: "مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يِتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ"١، فلا شك أن الآيات التي يتلوها أهل الكتاب هي آيات الإنجيل والتوراة، وليست آيات القرآن الكريم.
وفي قوله تعالى: "مَا نَنْسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نَنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا"بيان واضح يؤكد الوحدة التي تربط جميع آياته - بدون تخصيص أو تحديد - والعروة الوثيقة التي توحد الرسالات الإلهية المتعاقبة. والمستفاد من لفظ"نَنْسَخْ"أن بين آيات الله وحدةلا تنفصم بطول الزمن بين رسالة وأخرى، فالآية اللاحقة إن تعارض حكمها أومفهومها مع آيات سابقة حلّت محلّها واعتبرت تعديلاً لها، لأنه لا يتصوروجود تناقض في كلام الله وتفاوت في الأحكام التي يطلب من عباده اتباعها فيزمن معين. والآية المذكورة تجزم بأن الآية الناسخة إمّا تماثل المنسوخةأو هي خير منها.
ولا يفهم من لفظ "خير منها" في هذاالموضع معنى المفاضلة بين الآيات سواء من حيث صوابها أو دقة إحكامها، فذلكمناف للكمال الإلهي ودوامه على حال واحد لا أحسن فيها ولا أسوأ. فليستالمفاضلة هي المراد من قوله: "بِخَيرٍ مِنْهَا"وإنّما المقصود أنالله يبدّل آياته وأحكامه بما يناسب مدارك الإنسان المتنامية، وظروف نشأتهالمتغيّرة. وواقع الحال أنه ليس تغييراً وتبديلاً لتصحيح أو تحسينالكلام، ولكنه استبدال اقتضاه التدرج في تربية الإنسان وتهذيب فكره وتنظيمحياته، فآيات الله نظم مكنون في كتاب محفوظ يكشف عنه رسله تعالى بقدر طاقةأهل الإمكان ووفقاً لمدى تقدمهم وقابلياتهم. وليس من شأن العبد أن يقارنأو يفاضل بين أجزاء هذا النظم، وإنّما واجبه التسليم والإيمان بما فيه"كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا"٢.
من هنا نرى أنّ الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والزردشتية وسائرالديانات السماويّة كلّها من حيث أصولها وغاياتها فيض إلهي واحد، وهيتختلف بطبيعة الحال من حيث زمانها وأسلوبها وتعاليمها ولكنها متحدة فيسعيها لعلاج ما اختل من شؤون المجتمع البشري بما يتفق مع درجة بلوغهورشده، وإعداده لمتابعة السير في مراحل التطوّر الروحاني غير المتناهية.
وفي هذا السياق العام يمكن فهم قوله تعالى: "اليومُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً"٣، فهذا الخطاب الرحماني موجّه بنوع الخصوص إلى أمّة سيدنا محمد ويحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى رسالته. ولكن كلمة"الإسلام"في قوله تعالى"وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيْناً"تفيد أكثر من معنى. فلكلمة الإسلام لُغَةً معانٍ عدة. ومن معانيها الخضوع والانقيادلكل ما يأتي من عند الله، وإسلام الوجه إلى الله، وتفويض الأمر إليه. كما أن من معانيها أيضاً اتّباع شريعة محمد رسول الله.
وهذا المعنى الأخير الخاص للفظة"الإسلام"هو الذي اعتبره أكثر المفسّرين، فقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير لهذهالآية "هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأُمّة حيث أكمل تعالى لهمدينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره"٤ويعود ابن كثير فيقول في الصفحة نفسها تفسيراً لهذه الآية: "لما نزلت"اليَومُ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ"وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر، فقال له النبي: ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنّاكنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال: "صدقت"، ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: "إن الإسلام بدأ غريباًوسيعود غريباً فطوبى للغرباء"٥.
ولا تـثريب على عامة المفسّرين إذا عظّموا دينهم ورفعوا قدره ومدحوه معملاحظة عدم الإسراف في ذلك، وإلاّ وقعوا في الخطأ الذي وقعت فيه الأممالسابقة فضيّقوا المعاني المبسوطة، وخصّصوا فيها بدون دليل، وأوجدواالتعصب الأعمى وأضلّوا الكثير من الناس. وقد رأينا - فيما سبق - أناليهود اعتبروا كتابهم كاملاً حاوياً كل شيء، وما زالوا يردّدون أن شريعتهشريعة أبدية لا تتغيّر وليسوا في حاجة إلى غيرها. وقد كان هذا الفهمصحيحاً في زمان شريعة سيدنا موسى كما صدّق بذلك القرآن الكريم في قولهتعالى: "ثُمَّ آتَيْنَا مُوْسَى الكِتَابَ تَمَاماًعَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةًلَعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِم يُؤْمِنُونَ"٦، فكتاب سيدنا موسى عليه السلام كتاب تام، وفيه تفصيلكل شيء، ولكن إطلاق هذا الوصف على نحو يسد باب الهدى من بعده، وينهي رسالات الله، ويزعم أن"يَدْ اللهِ مَغْلُولَةًٌ"٧تضييق للمعنى وخطأ أدّى بهم إلى تكذيب رسل الله الذين بعثهم الله بالحق من بعد سيدنا موسى.
فتخصيص معنى"الإِسْلاَمَ"على وجه الإطلاق لا يتفق وسياق الكلام، وينحرف عن المراد. وحصر معنى"الإِسْلاَمَ"في قوله: "وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً"في الإشارة إلى شريعة سيدنا محمد لا مبرر له ولا دليل عليه، فالآية تحتمل أيضاً المعنى العام للفظة"الإِسْلاَمَ"أي تسليم الوجه إلى الله والإذعان لأوامره تعالى وهذا هو جوهر الدينوحقيقته. وبهذا المعنى وصف الله الأمم السابقة بالإسلام كما قال في معرضالحديث عن سيدنا إبراهيم: "إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِيينَ"٨، أو دعاء سيدنا إبراهيم وإسماعيل"رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ"٩، وكذلك وصيّـته لبنيه: "يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُم الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ"١٠،كما كان حواريوا سيدنا عيسى أيضاً مسلمين: "فَلَمَّاأَحَسَّ عِيْسَى مِنْهُم الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِقَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْبِأَنَّا مُسْلِمُونَ"١١.
فواضح من الآيات السابقة أن الإسلام بمعناه العام هو طاعة الله وإسلامالوجه إليه تعالى وهو أساس العبودية للّه ولا يتصوّر إيمان المرء بدينسماوي إلاّ إذا كان مقروناً بتسليمه لأمر الله ظاهراً وباطناً. وبهذاالمعنى جاءت الآية المباركة: "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ"١٢. ومن الواضح أن صرف دلالة كلمة الإسلام - معرفة بالألف واللام - في هذهالآية إلى رسالة سيدنا محمد وحدها ينفي وصف الدين عن رسالة كل من سيدناموسى وسيدنا عيسى، وهو ما يناقض آيات القرآن الصريحة بأن ما جاء به سيدناموسى وسيدنا عيسى كان حقاً من عند الله. والمعلوم لغة أن كلمة"الدِّينَ" - معرفة بالألف واللاّم - وبدون تخصيص تعني أولاً: الرابطة بين العباد وخالقهم ولا تقتصر على رسالة معيّنة بل تشملها جميعاً.
كما تعني ثانياً: أن هذه الرابطة واحدة على ممرّ الزمن، وأن تتابعالشرائع المعدّلة لأحكام هذا الدين الواحد هي سرّ دوام حيوية هذه الرابطةوصلاحها مع تغيّرِ الظروف والأحوال.
والآية الواردة بعد"إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ"تبيّن بوضوح المعنى المراد إذ جاء القول فيها موجها إلى سيدنا محمد: "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي للهِ". وبهذا أوضح الله تعالى أهمية إسلام العباد لتعاليمه وأحكامه بحيث صارالإسلام وصفاً شاملاً وشرطاً لكل الرسالات الإلهية، فسيدنا نوح جاء بدينوصفه الله تعالى بأنّه الإسلام: "وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ"١٣، وسيدنا يعقوب عليه السلام جاء أيضاً بالإسلام: "أَمْكُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيْهِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَءَابَآئِكَ إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداًوَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"١٤، وكذلك سيدنا موسى عليه السلام: "وَمَاتَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَـَّما جَاءَتْنَارَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ"١٥،وسيدنا عيسى عليه السلام جاء بالإسلام: "وَإِذْ أَوْحَيْتُإِلَى الحَوَارِيـِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُواآمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسلِمُونَ"١٦.
وخلاصة ماتقدّم أنّ "للإسلام" أكثر من معنى فهو في موضع يعني استجابة العباد إلىأوامر الله وانقيادهم لمشيئته، وفي موضع آخر اسم رسالة من الرسالاتالسماوية.
أمّا قوله تعالى: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ"١٧فيمكن حمل كلمة "الإسلام" في هذه الآية على معناها العام بناء على سياق الحديث في الآية السابقة "قُولُواءَامَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَىإِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَاأُوتِيَ مُوْسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم لاَنُفَرِّقُ بِيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ". فالإسلام بمعناه العام - كما رأينا - شرط لازم ومشترك لكل الشرائع، ويعنيرفض الله أدنى تحفّظ أو تردّد من عباده إزاء قبول شرائعه وأوامره قبولاًغير مجزأ وغير مشروط، ولا يقبل منهم إلاّ تسليمهم التام لكل ما جاء فيها.
وبعبارة أخرى، إن الرسالات الإلهية المتتابعةلا تبغى اقتسام العباد، ولا تريد التفرقة، ولا تمس بوحدة الدين، وإنما هي - كبنيان مرصوص - تكمّل كل منها الرسالة السابقة عليها، فتبدّل بعضاً منأحكام الشريعة السابقة بأحكام تحقق الغايات نفسها، كما بدّلت شريعة سيدناموسى شرع سيدنا إبراهيم، وكما نسخت شريعة السيد المسيح شرع سيدنا موسى،وكما نسخت شريعة سيدنا محمد شرع سيدنا المسيح وهلمّ جرّا، وهكذا تتصل كلرسالة بالأخرى وتكوّن حبلاً واحداً أمر الله الناس أن يعتصموا به، وذلك هوعهد الله مع عباده.
والمتدبّرفي كتاب الله يتبين أن لله مع البشر عهدين: عهد عام مع الناس جميعاً أنيؤمنوا برسالاته ويتّبعوا أوامره ويسلّموا له بحكم الفطرة التي فطر الناسعليها "أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِيآدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌوَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ"١٨،وعهد خاص يوثّـقه الله مع المؤمنين في كل رسالة من رسالاته وهذا مفهوم منلومه تعالى لبني إسرائيل لحنثهم بعهده الذي أوثـقه سيدنا موسى: "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوانِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيكُم وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوْفِبِعَهْدِكُم وَإِيَّايَ فَارْهَبُونَ"١٩،وجاء في تفسير الشيخ محمد عبده: "عهد الله تعالى إليهم يُعرف من الكتابالذي نزّله إليهم، فقد عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأنيؤمنوا برسله متى قامت الأدلة على صدقهم، وأن يخضعوا لأحكامه وشرائعه"٢٠. ولا يجوز القول: بأن الخطاب موجّه إلى بني إسرائيل ولا يصدق على غيرهم،لأن العدل الإلهي لا يخصّ قوماً بما يأباه على غيرهم فرحمته تعّم العالمينونوره يهدي كل البشر، ولومه بني إسرائيل يصدق أيضاً على كل أمّة تعرض عنرسالاته وتتخذ منها موقفاً مماثلاً لموقف بني إسرائيل. ومضمون العهدالإلهي المشار إليه في الآية المذكورة صريح في قوله تعالى موجّهاً إلى بنيالإنسان عامّة: "يَا بَنِي آدَمَ إمَّا يَأْتِيَنَّكُمرُسُلٌ مِنْكُم يَقُصُّونَ عَلَيْكُم ءَايَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَفَلاَ خَوفٌ عَلَيْهِم وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ"٢١.
وحقيقة أخرىتؤكدها هذه الآية المباركة ألا وهي وحدة دين الله التي لا تتعدّد بكثرةرسله وتعدّد شرائعهم على مدى الزمن، ومن ثم من يؤمن برسالة ولا يؤمنبأخرى، كأنه حنث بعهد الله، لأنّه قد احتجب بالتعدّد عن وحدانيته تعالى.وتبعاً لذلك مَن يـؤمن برسول دون رسول يكون قد غفل عن حقيقة التوحيد.وهذا قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِوَرُسُلِهِ وَيُرِيْدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِوَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيْدُونَ أَنْيَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاُ أُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقّاًوَاعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ ءَامَنُوابِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم أُولَئِكَسَوْفَ يُؤْتِيْهِم أُجُورَهُم وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً"٢٢.
هذا هوالكفر بأدق معانيه، ويختلف عما تظنّه العامّة الذين يعتبرون الكفر عدمالاعتراف بوجود الباري جلّ وعلا. وهذا تصوّر غير صحيح، فما من إنسان إلاّويعترف بوجود إلَه واحد مدبّر لشؤون الكون، حتى الطبيعيّين - على الرغم منعدم استعمالهم لفظ الجلالة - يعتقدون بوجود قوّة خفيّة مسيّرة للكون وإنكانوا لا يدركون كنهها ولا يعرفونها بغير هذا التعريف. فالكفرالحقيقي -كما صرحت الآية المباركة - هو التفريق بين رسل الله، والتفريق بينهم وبينالله عزّ وجلّ، وقبول واحد ورفض الآخر، فالذي يعترض على أيّ رسول إلهي فيأيّ زمن من الأزمان يكون في الحقيقة قد قطع ما أمر.
************************************************** *******
ربما تكون الخيوط قد تشعبت حسنا ، سأعطيك توضيحا آخر:
الناس يفهمون الدين على أنه مجموعة الأموامر والنواهىولوائح العقاب وحدود الحرام والحلال..وكلها من شئون الدنيا..أما الدين فشئآخر أعمق وأشمل وأبعد. الدين فى حقيقه هو الحب القديم الذى جئنا به الىالدنيا والحنين الدائم الذى يملأ شغاف قلوبنا الى الوطن الأًصلى الذى جئنامنه ,وهو العطش الى النبع الذى صدرنا منه والذى يمل كل جارحة من جوارحناشوقا وحنينا..وهو حنين تطمسه غواشى الدنيا وشواغلها وشهواتها. ولانفيق علىهذا الخنين الا لحظة يحطينا القبح والعبث والفوضى والاضطراب في هذا العالمفنشعر أننا غرباء عنه وأننا لسنا منه وأننا مجرد زوار وعابري طريق ولحظتهانهفو إلى ذلك الوطن الأصل الذي جئنا منه ونرفع رؤؤسنا في شوق وتلقائية إلىالسماء وتهمس كل جارحة فينا ياالله...أين أنت. ولحظة نخطئ ونتورط في الظلموننحدر إلى الخسران فننكس الرؤؤس في ندم وندرك أننا مدانونمسؤولون..ذلك هو الدين ذلك هو الرباط الخفي من الحنين لماض مجهول..وذلكالإحساس بالمسؤولية وبأننا مدينون أمام ذات عليا..ذلك الاحساس العميق فىلحظات الوحدة والهجر..بأننا لسنا وحدنا وأنما فى معية غيبية فى أنس خفىوأن هناك يد خفية سوف تنشلنا وذات عليا سوف تلهمنا وركنا شديدا سوفيحمينا..وعظيما سوف يرحمنا..فذلك هو الدين فى أصله وحقيقه. وما تبقى بعدذلك من أوامر ونواهى وحرام وحلال وأحكام وعبادات هى نتائج وموجبات لهذاالحب القديم. إذا الحب هو رأس القضية..وأذا غاب ذلك الحب فأن العباداتوالطاعات لن تصنع دينا ولن تصنع متدينا مسلما كان أو مسيحيا أويهوديا. وحبالله وحب ماخلق وماصنع من أرضيين وسماوات وحيوان وبشر هو جوهر كل الدياناتحقا..وهو المقياس الذى نفرق به بين اهل الدين..والأدعياء المشعوذينوالكذبة. وكل الدعاة الذين يغرقون أتباعهم فى التفاصيل والقشور والمظاهرويبتعدون عن لب القضية وعن معنى الدين..عن الحب والرحمة والتقوى ومكارمالاخلاق..هم الكذبة بقدر بعدهم عنها. وماكان اعتراض نبى الله عيسى عليهالسلام على الفريسين الا اغراقهم فى الجدل وفى حرفية النصوص وفى ظاهرالكلمات دون الالتفات الى معناها. وما كان نقمة موسى على اليهود حينماامرهم بأ، يذبحوا بقرة..الا اغراقهم فى الجدل والتنطع والسؤال..اى بقرةتكون ومالونها ..بنيه ام مرقشة ام صفراء..عجوز ام بكر..ادع لنا ربك يبينلنا ماهى..او لعلك تهزأبنا. هذا الجدل والغرق فى التفاصيل والتحجر علىالحروف والكلمات اخرجهم من الدين فى نظر موسى عليه السلام واستحقوا عليهالتقريع واللوم. ولللأسف الشديد التدين اليوم لايمس لدين بصلة بسبب انحرافالدعوة وانحراف اكثر الدعاة واغراقهم فى القشور والتفاصيل والخلافاتوالامور الثانوية مما القى باكثر المسلمين الى الاختلاف والجدل والتعصبومما اوجد هذا التدين السطحى الابله. ان الحب قلب الاقضية..هو الجوهرالصافى لجميع الاديان وكل الرسالات. ام الشرائع والاوامر والنواهى فهىلتنظيم شئون الحياة وهى تابعة للاطار العام..اشاعة السلام والعدل والحببين الناس وسوف يتوقف عملها فى الآخرة..حينما لايعود لأحد حكم او سلطانلمن الملك اليوم..لله الواحد القهار. اذا مجال الشرائع محدود بوظائفهاوزمانها. بهذا المفهوم من الحب والرحمة يكون النظر الى الشرائع فى اطارزمانها ومكانها وظروفها وفى اطار الرحمة التى اوجبها الله فهو سبحانه خلقلنا الشرائع لأسعادنا فى الدنيا وليس لتعذيبنا وخلق لنا العقل لنتدبركلماته ولم يضع داخل رؤسنا حجارة ولاجعلنا آلات بلا تدبر وبلاتفكير..واراد جل وعلا ان تكون النصوص هى الحاكمة على حروفها..وبدأ باسمالله الرحمن الرحيم كل شئ. واسلامنا اوله رحمة وآخره حمد وأوسطه محبة. فالحب هو الوجود وسر ديمومته..وبدون الحب فى قلبك لايعود الى وجودك معنىولالفضائلك معنى ولالدينك معنى مهما صليت وحججت وصمت. واقصد بالحب هنا حبالخير والحق والعدل والمثل العليا والجمال. اين الأخوان من ذلك؟ تلكالجماعة الذين يدعون وحدهم انهم المتحدثون باسم الله الحق وانهم خلفاء للهووكلاء لله فى الارض.كما انهم يتهمون الآخرين بالانحراف والمروق والكفروبين هذا وذاك خلافات ثانويه.بين حجاب ونقاب وبين جلباب وبين شارب ولحيهوبين رأى فى التماثيل ورأى فى الصور والمصورين وراى فى الفن والموسيقىوأداه الصلاه بهذه الكيفية او بتلك,اذان واحد لصلاة ام اذانان وعلى ماءالوضوء يصل الى الكوع ام يشمله وعلى الايدى ترسل على الجانبين اثناءالصلاة ام تضم على الصدر ونجهر بالصلاة متى ونخافت بها متى ونتظر الامامالغائب ام لاننتظر ونولى القاضى ام السياسى. فاذا صليت منفردا فصلاتكعندهم مرفوضه لاان الصلاة لاتكون الاجماعة ويوم القيامة يؤتى بصلاتك فىوجهك واذا شاهدوك تصلى وانت مستدل الذراعين قالوا لك صلاة غير جائزةفالذراعين لابد ان تكون مضمومتين للصدر. واذا سمعوك تقول لجارك النصرانىكل سنه وانت طيب خرجت عن ملة محمد وحقت عليك اللعنة.واذا انقطعن عن الصلاةكان من حق امير الجماعة ان يطلق منك زوجتك ويطلبها الى نفسه..فقد اصبحتكافرا واصبحت زوجتك زانيه لمعاشرتكم. واذا خرجت عن تعليماتهم قيد شعرةدخلت فى ملة الكفر وكلما اتيت بفعل انكروه عليك ..ولامفر ولامهرب اما انتكون معهم وام ان تكون من اصحاب النار. وهؤلاء الناس شددوا على نفسهم فىالطاعة فشدد الله عليهم مثل يهود سورة البقرق قال لهم موسى(ان الله يأمركمان تذبحوا بقره)فراحو يتنطعون ويتماحكون اظهار للحذلقة فى الطاعة فراحربهم يشدد عليهم ويغلظ عليهم بما شددوا على انفسهم حتى جعل من الامرالبسيط انتقاء بقرة معضلة تقصم الظهر. ومن عجب ان اكثر مطالب هؤلاء الناسشكليات ومظاهر وهم يسوقون اليك عشرات الاحاديث..ويأتوك باحاديث منزوعة منسياقها ومن زمانها. فهم يلعنون المصورون الذين يصنعون الصور واتماثيلويأتوك باحاديث منسوبة الى النبى..فاذا قلت لهم ان القرآن يحكى ان الجنكانوا يصنعون لسليمان النماثيل..والتمثال لمجرد الزينة وهو جمال مجرد لاشئفيه..قالوا انت كافر. وفى قولهم عن المسلم الذى يخرج عن الملة اذا قاللجاره النصرانى كل عام وانت بخير..وتسألهم ماذا كان يقول النبى لزوجتهمارية القبطية وهى فى فراشه وهو لاشك كان يقول لها قول احسن..اكان يخرجهقوله عن ملته..حاشا لله بل كذبوا وافتروا. واذا كان المنقبات لابساتالعبائات هن المؤمنات وماعدهن خارج عن الملة.فما القول فى آيات القرآنالصريحة التى تخاطب المؤمنات(قل للمؤمنات يغضضن ابصارهن ويحفظن فروجهن)ومامعنى غض البصر هنا الا ان تكون الوجوه مكشوفة وحسنها ظاهر. وكيف يكون غضالبصر عن خيمة سوداء بثقبين انها اذا وجوه مكشوفه حسنها ظاهر وهى وجوهمؤمنات فالكلام للمؤمنات وليس للفاسقات. الاخوان بهذا المعنى السطحى فرغواالدين من مضمونه العميق ولايبقى الامظاهر وشكليات وهى تأخذ المسلم منالجوهر الغنى الثرى للاسلام لتلقى به فى تفاصيل وفروع وحذلقات. وهم يخرجونالنسلن من الاصول الى الفروع ومن الفروع الى السطحيات والشكليات ثم تخرجهالى الهواء الطلق. فما علاقه الدين بذلك كله أن الكلام فى هذه المسائلفضول وتفريغ للاسلام العظيم من معناه ومضمونه..فالسلام قبل كل شئ رحمةومودة وسلام ومحبة وتقوى وتوحيد بالله وعلم وعمل ومكارم اخلاق وانت مسلمبقدر مايظهر فيك تلك السجايا..وليس بلحيتك ولابجلبابك ولابالسواك الذىتدلك به اسنانك. الفقه الذى يحبس نفسه فى تفاصيل ومسائل ظهريه ويخرجنا منالباب الى القشور ومن الاجماع الى الخلافات هو فى النهايه فقه تحكمىارهابى لاانه ينتهى الى سجن المسلكين فى قوالب شكليه. والفقه الذى اخترناههو فقه الاعتدال والوسطيه والسماحة والين والرفق مصداق للقرآن(ما جعلعليكم فى الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين من قبل). ونحنجميعا مسلمين واقباط اهل بيت واحد وابناء ام واحدة ..وشعارنا المودةوالرحمة..ومن يختار ان يشدد على نفسه فهو حر ولكن لايفرض علينا تشددهولايستعلى علينا ولاينظر الى نفسه فى المرآة بتميز عنصرى. الشرائع الحقةهى ماتصلح به الحياة ..اما غير ذلك فبضاعة مستوردة مغشوشة
**************
الروابط المفضلة