لما كان الصبر مأموراً به، جعل الله سبحانه له أسبابا تعين عليه وتوصل إليه
وكذلك ما أمر الله سبحانه بالأمر إلا أعان عليه ونصب له أسبابا تمده وتعين عليه، كما أنه ما قدر داءا الا وقدر له دواء و ضمن الشفاء باستعماله
فالصبر وان كان شاقا كريها على النفوس، فتحصيله ممكن وهو يتركب من مفردين : العلم و العمل
فمنهما تركب جميع الأدوية التى تداوى بها القلوب و الأبدان
فأما الجزء العلمي ، فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال، وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص
فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي، أضاف إليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية ، فحصل له الصبر وهانت عليه مشاقه وحلت له مرارته وانقلب ألمه لذة
وقد تقدم أن الصبر مصارعة باعث العقل والدين لباعث الهوى والنفس
وكل متصارعين أراد أن يتغلب أحدهما على الآخر، فالطريق فيه تقوية من أراد أن تكون الغلبة له و إضعاف الآخر
فإذا عزم على التداوي ومقاومة هذا الداء فليضعفه أولاً بأمور:
الأول : أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة فيحدها من الاغذية المحركة للشهوة.
فإن لم تنحسم، فليبادر إلى الصوم فإنه يضعف مجاري الشهوة ويكسر حدتها ولا سيما إذا كان أكله وقت الفطر معتدلا.
الثاني: أن يجتنب محرك الطلب وهو النظر
فليقصر لجام طرفه ما أمكنه، فإن داعي الإرادة والشهوة إنما يهيج بالنظر، والنظر يحرك القلب بالشهوة.
في المسند عنه: "النظر سهم مسموم من سهام إبليس"
الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام.
الرابع: التفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر.
فإنه لو لم يكن جنة ولا نار، لكان في المفاسد الدنيوية ما ينهى عن إجابة هذا الداعي.
***
أما تقوية باعث الدين فإنه يكون بأمور:
أحدهما: إجلال الله تبارك وتعالى أن يعصى وهو يرى ويسمع.
الثاني: مشهد محبته سبحانه
فيترك معصيته محبة له، فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الترك ترك المحبين.
الثالث: مشهد النعمة و الإحسان
فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته حياء منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلا إليه، ومخالفاته ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه.
الرابع: مشهد الغضب والانتقام
فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضب، وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف.
الخامس: مشهد الفوات
وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة، وما يحدث له بها من كل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا، و يزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعا وعقلا وعرفا.
ويكفي مشهد فوات الإيمان الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافا مضاعفة، فكيف أن يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبعتها، تذهب الشهوة وتبقى الشقوة.
السادس: مشهد القهر والظفر
فان قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة عند من ذاق ذلك، أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين.
السابع: مشهد العوض
وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها.
وليوازنه بين العوض المعوض، فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره و ارتضاه لنفسه.
الثامن: مشهد المعية
كقوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنياه وآخرته ممن فضى وطره ونيل شهوته على التمام من أول عمره إلى آخره
فكيف يؤثر عليها لذة منغصة منكدة في مدة يسيرة من العمر إنما هي كأحلام نائم أو كظل زائل.
التاسع: مشهد المغافصة و المعاجلة
وهو أن يخاف أن يغافصه الأجل فيأخذه الله على غرة، فيحال بينه وبين ما يشتهى من لذات الآخرة
فيا لها من حسرة ما أمرها و ما أصعبها، لكن ما يعرفها إلا من جربها..
العاشر: مشهد البلاء والعافية
فان البلاء في الحقيقة ليس الا الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها.
فأهل البلاء هم أهل المعصية وان عوفيت أبدانهم. وأهل العافية هم أهل الطاعة وان مرضت أبدانهم.
الحادي عشر: أن يعود باعث الدين ودواعيه مصارعة داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلا قليلا
حتى يدرك لذة الظفر، فتقوى حينئذ همته، فإن من ذاق لذة شيء قويت همته في تحصيله.
والاعتياد لممارسة الأعمال الشاقة تزيد القوى التى تصدر عنها تلك الأعمال.
ولذلك تجد قوى الحمالين وأرباب الصنائع الشاقة تتزايد بخلاف الخياط ونحوه
ومن ترك المجاهدة بالكلية، ضعف فيه باعث الدين وقوى فيه باعث الشهوة، ومتى عود نفسه مخالفة الهوى غلبه متى أراد.
الثاني عشر: كف الباطل عن حديث النفس
واذا مرت به الخواطر نفاها ولا يؤويها ويساكنها فإنها تصير أماني ، ثم تقوى فتصير هموماً، ثم تقوى فتصير إرادات، ثم تقوى فتصير عزماً يقترن به المراد.
فدفع الخاطر الأول أسهل وأيسر من دفع أثر المقدور بعد وقوعه و ترك معاودته.
الثالث عشر: قطع العلائق والأسباب التي تدعوه إلى موافقة الهوى
وليس المراد أن لا يكون له هوى، بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى
فإن ذلك يدفع عنه شر استعماله في معاصيه، فإن كل شيء من الإنسان يستعمله لله، فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان. وما لا يستعمله لله، استعمله لنفسه وهواه ولا بد.
فالعلم ان لم يكن لله كان للنفس والهوى، والعمل ان لم يكن لله كان للرياء والنفاق، والمال ان لم ينفق في طاعة الله أنفق في طاعة الشيطان والهوى..
فمن عود نفسه العمل لله، لم يكن عليه أشق من العمل لغيره. ومن عود نفسه العمل لهواه وحظه، لم يكن عليه أشق من الاخلاص والعمل لله.
الرابع عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله
فإذا استولى ذلك على قلبه دفع عنه محاظرة الشيطان ومحادثته ووسواسه وما أعظم غبن من أمكنه أن لا يزال محاظرا للرحمن وكتابه فرغب عن ذلك إلى محاظرة الشيطان من الإنس والجن
فلا غبن بعد هذا الغبن والله المستعان..
الخامس عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها
فلا يرضى لنفسه ان يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخس ما فيها وأقله نفعا، إلا ساقط الهمة دنيء المروءة ميت القلب، فإن حسرته تشتد إذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد يعذب به ويناله بسببه غاية الألم.
السادس عشر: تعرضه إلى من القلوب بين أصبعيه وأزمة الأمور بيديه وانتهاء كل شيء إليه على الدوام.
فلعله أن يصادف أوقات النفحات كما في الأثر المعروف: " ان لله في أيام دهره نفحات فتعرضوا لنفحاته واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم "
ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من الساعات التى لا يسأل الله فيها شيئا الا أعطاه فمن أعطى منشور الدعاء أعطى الاجابة، فإنه لو لم يرد اجابته لما ألهمه الدعاء..
ولا يستوحش من ظاهر الحال، فإن الله سبحانه ما حرمه الا ليعطيه، ولا أمرضه الا ليشفيه، ولا أفقره الا ليغنيه، ولا أماته الا ليحييه .
السابع عشر: أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين
ومحنته بين الجاذبين : جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين، وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين
فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعد درجة حتى ينتهى إلى حيث يليق به من المحل الأعلى. وكلما انقاد إلى الجاذب الاسفل نزل درجة حتى ينتهى إلى موضعه من سجين.
ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل، فلينظر أين روحه في هذا العالم، فإنها اذا فارقت البدن تكون في الرفيق الأعلى الذى كانت تجذبه إليه في الدنيا فهو أولى بها فالمرء مع من أحب.
وكل مهتم بشيء فهو منجذب إليه وإلى أهله بالطبع.
الثامن عشر: أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة، و تنقيته من الدغل شرط لكمال الزرع.
فمتى لم يفرغ المحل، لم يصادف غيث الرحمة محلا قابلا ينزل فيه.
وان فرغه حتى أصابه غيث الرحمة ولكنه لم ينقه من الدغل، لم يكن الزرع زرعا كاملا، بل ربما غلب الدغل على الزرع فكان الحكم له.
فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من ارادة السوء وخواطره، وبذر فيه بذر الذكر والفكر والمحبة والإخلاص، وعرضه لمهاب رياح الرحمة، وانتظر نزول غيث الرحمة في أوانه، كان جديرا بحصول المغل
وكما يقوى الرجاء لنزول الغيث في وقته، كذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة والأحوال الشريفة
ولا سيما اذا اجتمعت الهمم وتساعدت القلوب وعظم الجمع كجمع عرفة وجمع الاستسقاء وجمع أهل الجمعة
فإن اجتماع الهمم والأنفاس أسباب نصبها الله تعالى مقتضية لحصول الخير ونزول الرحمة
ولو فرغ العبد المحل وهيأه وأصلحه لرأى العجائب، فإن فضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد. فلو زال ذلك المانع لسارع إليه الفضل من كل صوب.
فتأمل حال نهر عظيم يسقى كل أرض يمر عليها فحصل بينه وبين بعض الأرض المعطشة المجدية سكر وسد كثيف فصاحبها يشكو الجدب والنهر إلى جانب أرضه.
التاسع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له
ولعز لا ذل معه وأمن لا خوف فيه وغناء لا فقر معه ولذة لا ألم معها وكمال لا نقص فيه
وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء، والعز الذي يقارنه الذل، والأمن الذى معه و بعده الخوف، وكذلك الغناء واللذة والفرح والنعيم الذي هنا مشوب بضده، لأنه يتعقبه ضده وهو سريع الزوال.
فغلط أكثر الخلق في هذا المقام إذ طلبوا النعيم والبقاء والعز والملك والجاه في غير محله، ففاتهم في محله وأكثرهم لم يظفر بما طليه !
والذي ظفر به انما هو متاع قليل والزوال قريب، فإنه سريع الزوال عنه.
العشرون: أن لا يغتر العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا كاف في حصول المقصود بل لا بد أن يضيف إليه بذل الجهد
وملاك ذلك الخروج عن العوائد فإنها أعداء الكمال والفلاح.
فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدا، ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظان الفتنة والبعد عنها ما أمكنه، وقد قال النبي: "من سمع بالدجال فلينا عنه"
فما استعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه و مظانه
وههنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق، وهى أن يظهر له في مظان الشر بعض شيء من الخير، ويدعوه إلى تحصيله، فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة والله أعلم.
الروابط المفضلة