يدخل الصبر و الشكر في صفات الرب جل جلاله، و يسمى بالصبور و الشكور
ولو لم يكن للصبر والشكر من الفضيلة إلا ذلك لكفى به
أما الصبر فقد أطلقه عليه أعرف الخلق به و أعظمهم تنزيها له بصيغة المبالغة
ففى الصحيحين عن النبي قال : " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله عز وجل يدعون له ولدا وهو يعافيهم ويرزقهم".
و في أسمائه الحسنى الصبور، وهو من أمثلة المبالغة أبلغ من الصابر و الصبار
وصبره تعالى يفارق صبر المخلوق و لا يماثله من وجوه متعددة
منها أنه عن قدرة تامة، و منها أنه لا يلحقه بصبره ألم و لا حزن و لا نقص بوجه ما
ظهور أثر الاسم فى العالم مشهود بالعيان كظهور اسمه الحليم
الفرق بين الصبر و الحلم أن الصبر ثمرة الحلم و موجبه، فعلى قدر حلم العبد يكون صبره
فالحلم فى صفات الرب تعالى أوسع من الصبر ولهذا جاء اسمه الحليم فى القرآن فى غير موضع، و لسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله وكان الله عليما حليما والله عليم حليم
:
في أثر أن حملة العرش أربعة :
إثنان يقولان " سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك "
وإثنان يقولان " سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك "
فإن المخلوق يحلم عن جهل ويعفو عن عجز، والرب تعالى يحلم مع كمال علمه و يعفو مع تمام قدرته
وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ومن عفو إلى اقتدار
:
صبره سبحانه متعلق بكفر العباد و شركهم و مسبتهم له سبحانه و أنواع معاصيهم وفجورهم
فلا يزعجه ذلك كله إلى تعجيل العقوبة، بل يصبر على عبده ويمهله ويستصلحه ويرفق به ويحلم عنه
حتى اذا لم يبق فيه موضع للصنيعة و لا يصلح على الامهال والرفق والحلم، ولا ينيب إلى ربه ويدخل عليه لا من باب الاحسان والنعم ولا من باب البلاء والنقم
أخذه أخذ عزيز مقتدر، بعد غاية الأعذار إليه و بذل النصيحة له و دعائه إليه من كل باب
:
إذا أردت معرفة صبر الرب تعالى و حلمه و الفرق بينهما فتأمل قوله تعالى :
ان الله يمسك السموات والارض أن تزولا ولئن زالتا ان أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا
وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ
في الآية إشعار بأن السموات والأرض تهم وتستأذن بالزوال لعظم ما يأتي به العباد فيمسكها بحلمه ومغفرته
وذلك حبس عقوبته عنهم وهو حقيقة صبره تعالى
فالذي عنه الامساك هو صفة الحلم، و الامساك هو الصبر وهو حبس العقوبة
في مسند الامام أحمد مرفوعا: "ما من يوم الا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بنى آدم"
وهذا مقتضى الطبيعة لأن كرة الماء تعلو كرة التراب بالطبع ولكن الله يمسكه بقدرته وحلمه وصبره، وكذلك خرور الجبال وتفطير السموات
فإن ما يأتي به الكفار والمشركون والفجار فى مقابلة العظمة والجلال والإكرام يقتضى ذلك
فجعل سبحانه فى مقابلة هذه الأسباب، أسبابا يحبها ويرضاها ويفرح بها أكمل فرح وأتمه، تقابل تلك الأسباب التي هي سبب زوال العالم وخرابه فدفعت تلك الأسباب وقاومتها.
وكان هذا من آثار مدافعة رحمته لغضبه و سبقها إياه، فغلب أثر الرحمة أثر الغضب كما غلبت الرحمة الغضب
لهذا استعاذ النبي بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، ثم جمع الأمرين في الذات اذ هما قائمان بها فقال :
" أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك "
فتأمل ما تحت قوله: "أعوذ بك منك"
من محض التوحيد وقطع الالتفات الى غيره وتكميل التوكل عليه تعالى والاستعانة به وحده وافراده بالخوف والرجاء ودفع الضر وجلب الخير
وهو الذي يمس بالضر بمشيئته وهو الذي يدفعه بمشيئته وهو المستعاذ بمشيئته من مشيئته وهو المعيذ من فعله بفعله
وهو الذى سبحانه خلق ما يصبر عليه وما يرضى به
فاذا أغضبه معاصى الخلق وكفرهم وشركهم وظلمهم، أرضاه تسبيح ملائكته وعبادة المؤمنين له وحمدهم اياه وطاعتهم له فيعيذ رضاه من غضبه
{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}
أخبر أنه سبحانه كما جعل فى الارض من يكفر به ويجحد توحيده ويكذب رسله
كذلك جعل فيها من عباده من يؤمن بما كفر به أولئك ويحفظ من حرماته ما أضاعوه
وبهذا تماسك العالم العلوي و السفلي، والا فلو تبع الحق أهواء أعدائه لفسدت السموات والارض ومن فيهن ولخرب العالم
ولهذا جعل سبحانه من أسباب خراب العالم رفع الأسباب الممسكة له من الارض، وهي كلامه وبيته ودينه والقائمون به
فلا يبقى لتلك الأسباب المقتضية لخراب العالم أسباب تقاومها وتمانعها
ولما كان اسم الحليم أدخل في الاوصاف، واسم الصبور في الافعال
كان الحلم أصل الصبر فوقع الاستغناء بذكره فى القرآن عن اسم الصبور والله أعلم.
****
أما تسميته سبحانه بالشكور، قال الله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} و قال : {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}
وقال تعالى {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً}
فجمع لهم سبحانه بين الأمرين أن شكر سعيهم وأثابهم عليه، والله تعالى يشكر عبده إذا أحسن طاعته
وقد تقدم ذكر حقيقة شكر العبد وأسبابه ووجوهه، وأما شكر الرب تعالى فله شأن آخر كشأن صبره
فهو أولى بصفة الشكر من كل شكور بل هو الشكور على الحقيقة
ولما عقر نبيه سليمان الخيل غضبا له اذ شغلته عن ذكره فاراد ألا تشغله مرة أخرى، أعاضه عنها متن الريح
ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها فى مرضاته، أعاضهم عنها أن ملكهم الدنيا وفتحها عليهم
ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن، شكر له ذلك بأن مكن له فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء
ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزقها أعداؤه، شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرا خضرا أقر أرواحهم فيها ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها الى يوم البعث فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه
ولما بذل رسله أعراضهم فيه لأعدائهم فنالوا منهم وسبوهم، أعاضهم من ذلك بأن صلى عليهم هو وملائكته وجعل لهم أطيب الثناء فى سمواته وبين خلقه فأخلصهم بخالصة ذكرى الدار.
ومن شكره سبحانه أنه يجازي عدوه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا ويخفف به عنه يوم القيامة
فلا يضيع عليه ما يعمله من الاحسان، وهو من أبغض خلقه إليه
ومن شكره أنه غفر للمرأة البغى بسقيها كلبا كان قد جهده العطش حتى أكل الثرى
وغفر لآخر بتنحيته غصن شوك عن طريق المسلمين
فهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه والمخلوق إنما يشكر من أحسن اليه
وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به الى نفسه
وشكره على قليله بالأضعاف المضاعفة التي لا نسبة لإحسان العبد اليها
فهو المحسن بإعطاء الاحسان وإعطاء الشكر فمن أحق باسم الشكور منه سبحانه!
تأمل قوله سبحانه : { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً}
كيف تجد فى ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم، كما يأبى اضاعة سعيهم باطلا
فالشكور لا يضبع أجر محسن ولا يعذب غير مسيء
و في هذا رد لقول من زعم أنه سبحانه يكلفه ما لا يطيقه، ثم يعذبه على ما لا يدخل تحت قدرته
تعالى الله عن هذا الظن الكاذب والحسبان الباطل علوا كبيرا، فشكره سبحانه اقتضى أن لا يعذب المؤمن الشكور ولا يضيع عمله
ومن شكر سبحانه أنه يخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرة من خير، ولا يضيع عليه هذا القدر
ومن شكره سبحانه أن العبد من عباده يقوم له مقاما يرضيه بين الناس، فيشكره له وينوه بذكره ويخبر به ملائكته وعباده المؤمنين كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام وأثنى به عليه ونوه بذكره بين عباده
وكذلك شكره لصاحب يس مقامه ودعوته إليه
:
إنه سبحانه غفور شكور يغفر الكثير من الزلل و يشكر القليل من العمل
لما كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة، كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر كما أن أبغض خلقه اليه من اتصف بضدها
هذا شأن أسمائه الحسنى أحب خلقه اليه من اتصف بموجبها وأبغضهم اليه من اتصف باضدادها
الروابط المفضلة