بسم الله الرحمن الرحيم
ومرحباً بكم من جديد في هذه الجلسات الطيبة المباركة .. التي تعد روضة من رياض الجنة .. نرقق بها قلوبنا .. ونجمع شتات أفئدتنا .. وتصفى بها نفوسنا .. ألسنا مع كلام الرب الحبيب على نفوسنا .. ألسنا مع خير كتاب أنزل .. وأصدق كلام يسمع .. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ...

كان عثمان بن عفان رضوان الله عليه يقول : { والله لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام ربنا } .. و كان عكرمة بن أبي جهل رضوان الله عليه عندما يفتح المصحف ليقرأ ..لا يستطيع فيبكي ويضم المصحف إلى صدره قائلاً (( قرآن ربي قرآن ربي )) . أولئك قوم يتذوقون القرآن .

وقد صدق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عندما وصفه قائلاً :

كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ ‏‏ مَا كَانَ ‏‏ قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ ... وَحُكْمُ ‏‏ مَا ‏ بَيْنَكُمْ ... وَهُوَ ‏ ‏الْفَصْلُ ‏ ‏لَيْسَ بِالْهَزْل ِ ... مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ ‏ ‏قَصَمَهُ ‏‏اللَّهُ ... وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ ... وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ ... وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ ... وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الَّذِي لَا ‏ ‏تَزِيغُ ‏ ‏بِهِ الْأَهْوَاءُ ... وَلَا تَلْتَبِسُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ ... وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ ... وَلَا ‏ ‏يَخْلَقُ ‏ ‏عَلَى كَثْرَةِ ‏... ‏الرَّدِّ ‏ ‏وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ ... هُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا ‏{ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ }... ‏مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ ... وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ ... وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هَدَى إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ...

والقرآن الحبيب لا تشبع منه العلماء ، ولا تنقضي عجائبه .. فالعلماء على كثرتهم وتعدد ثقافاتهم ومدارسهم ، أقبلوا عليه وأخذوا منه الكثير ولم يشبعوا ولم يستقصوا . فكم سجلوا من معانيه ، واستخرجوا من كنوزه ، ومع ذلك بقي يعطي ويعطي ، ويدعو الراغبين إليه ، ليقفوا على ما لم يقف عليه السابقون ، ويضيفوا إلى ما لاحظه أولئك الأكارم وسجلوه .

إن المؤمن عندما يحسن تدبر القرآن والتعامل معه ، يقف على زاد عظيم من معانيه ودلالاته وإيحاءاته .. وربما يفتح الله عليه ببعض الخواطر والمعاني التي لم يقف عليها أحد قبله .. هذا هو القرآن حي متجدد .. إنما يريد قلوباً حية تعشق تجدد الإيمان فيها وفي من حولها .

أيها الأحبة :

كنا قد قلنا بأن سورة الكهف هي سورة ( العواصم من الفتن ) .. وأنها تضيء لصاحبها أنوارا بعيدة ، تنير طريقه في وسط ظلام الفتن ما ظهر منها وما بطن .. تلك الفتن التي يكون للعبد كسب فيها واختيار .. والتي تميله عن الحق وتضله عنه .. وهي التي تفرق بين الناس وتشعل نار الاختلاف المذموم .. لما لها من غموض ولبس ..

وما دامت سورة الكهف الحبيبة ـ والقرآن كله حبيب ـ تتحدث عن الفتن ؛ فلنترك المجال لخبير الفتن يحدثنا عنها ، أتدرون من هو ؟ إنه الصحابي الجليل ( حذيفة بن اليمان ) رضوان الله عليه . كاتم سر النبي صلى الله عليه وسلم .. ومن لديه قائمة بالمنافقين ؟

يقول حذيفة رضوان الله تعالى عليه : { ‏كُنَّا عِنْدَ ‏ ‏عُمَرَ ‏ ‏فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَالَ قَوْمٌ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ فَقَالَ لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ ‏ ‏فِتْنَةَ ‏ ‏الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ قَالُوا أَجَلْ قَالَ تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي ‏ ‏تَمُوجُ ‏ ‏مَوْجَ الْبَحْرِ قَالَ ‏ ‏حُذَيْفَةُ ‏ ‏فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَقُلْتُ أَنَا قَالَ أَنْتَ ‏ ‏لِلَّهِ أَبُوكَ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏حُذَيْفَةُ ‏ ‏سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏يَقُولُ ‏ ‏تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ ‏عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ ‏ ‏أُشْرِبَهَا ‏ ‏نُكِتَ ‏ ‏فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ ‏ ‏أَنْكَرَهَا ‏ ‏نُكِتَ ‏ ‏فِيهِ ‏ ‏نُكْتَةٌ ‏ ‏بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ ‏ ‏الصَّفَا ‏ ‏فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ ‏ ‏مُرْبَادًّا ‏ ‏كَالْكُوزِ ‏ ‏مُجَخِّيًا ‏ ‏لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا ‏ ‏أُشْرِبَ ‏ ‏مِنْ هَوَاهُ} أخرجه الإمام مسلم في صحيحه .
قال النووي في شرح صحيح مسلم :

‏وقوله : ( فتنة الرجل في أهله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ) ‏
‏قال أهل اللغة : أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار . قال القاضي : ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء . قال أبو زيد . فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة , وتحول من حال حسنة إلى سيئة . وفتنة الرجل في أهله , وماله , وولده ضروب من فرط محبته لهم , وشحه عليهم , وشغله بهم عن كثير من الخير , كما قال تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } أو لتفريطه بما يلزم من القيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم فإنه راع لهم ومسئول عن رعيته وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا فهذه كلها فتن تقتضي المحاسبة , ومنها ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات كما قال تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } . ‏

وقوله : ( التي تموج كما يموج البحر ) ‏
‏أي تضرب ويدفع بعضها بعضا . وشبهها بموج البحر لشدة عظمها , وكثرة شيوعها . ‏

‏وقوله صلى الله عليه وسلم : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا ) ‏
‏ ومعنى ( تعرض ) أنها تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم , ويؤثر فيه شدة التصاقها به . قال : ومعنى ( عودا عودا ) أي تعاد وتكرر شيئا بعد شيء ، وقال الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان : معناه تظهر على القلوب أي تظهر لها فتنة بعد أخرى . وقوله : ( كالحصير ) أي كما ينسج الحصير عودا عودا وشظية بعد أخرى . قال القاضي : وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد .

‏قوله صلى الله عليه وسلم : ( فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء , وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ) ‏
‏معنى ( أشربها ) دخلت فيه دخولا تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب . ومنه قوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل } أي حب العجل , ومعنى نكت نكتة نقط نقطة ، قال : ابن دريد وغيره : كل نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت ومعنى ( أنكرها ) ردها .

‏وقوله صلى الله عليه وسلم : ( حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه ) ‏
‏قال القاضي عياض رحمه الله ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل , وأن الفتن لم تلصق به , ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء . ‏
‏قال القاضي رحمه الله : شبه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه .
انتهى كلام النووي رحمه الله .

فأمر الفتن يكمن خطره في كون محلها هو القلب والعقل وطريقة تناول الأمور وفهمها ، وكلما كان للمرء منا جمله من الضوابط والمرتكزات الرئيسية يدرك بها الأمور ويتفهمها كلما كانت النجاة من تأثيرها أكبر .. والقرآن الكريم هو المصدر الأول والرئيس لهذه الأسس والمرتكزات .. بخاصة تلك الفتن الكبيرة التي تموج بالناس وتحرك عليهم كل شي ..
وهذا جزء من مهمة هذه الجلسات .. فالله المعين والموفق .

أسباب النزول :

يتناول العديد موضوع سبب النزول تناولا تاريخيا مجرد ، دون الوقوف على دلالات الحداثة وما تحمل من إيحاءات لها مغزاها المستمر استمرار هذا القرآن الكريم .. فمعرفة سبب النزول يجعل المتدبر لكلام الله تعالى يعيش أجواء السورة وقت نزولها ، وكلما كان مرهف الحس في تدبره كلما كان يعيش أجواء النزول كأنه يرى المشهد ماثلا أمامه .. ويرى ويتخيل حال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وقت النزول ، وأجواء مكة ، والصراع الفكري العنيف بين الإسلام والمادية والجاهلية التي يعيشها العرب وقتها .. يرى تلك المشاهد كلها من خلال تأمله في سبب النزول .

و معرفة سبب النزول تسهل الربط بين زمن النزول وزمن التدبر ، ومهمة التدبر العميق هو الربط بين الزمانيين برابط المعنى المعجز المستمر .. الذي كفل لهذا القرآن الكريم صلاحيته لكل زمان ومكان ..
ومعرفة سبب النزول تعطي المسلم معرفة بأعداء دعوته الأوائل ... الذين جابهوا وحاربوا نبيه الكريم .. وصدوا عن سبل الله القويم ... وليربط بأعدائه المعاصرين .. تتغير الأسماء لكن تبقى المعاني فيهم وفي صدهم عن سبيل الله .. وإرادتهم الطاغية في ختم المسلمين بخاتم المادية المهلكة .. وليخرج المسلم بعدها بقاعدة ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب ) .


سبب نزول سورة الكهف :

{ ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما: سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله; فإنهم أهل الكتاب الأول, وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ; فخرجا حتى قدما المدينة, فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ووصفا لهم أمره, وأخبراهم ببعض قوله, وقالا لهم: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا .

فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن, فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل, وإن لم يفعل فالرجل متقول, فروا فيه رأيكم; سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول, ما كان أمرهم; فإنه قد كان لهم حديث عجب.

سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها, ما كان نبؤه.

وسلوه عن الروح, ما هي ; فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي, وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش, قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها, فإن أخبركم عنها فهو نبي, وإن لم يفعل فالرجل متقول, فروا فيه رأيكم .

فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد, أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول, قد كانت لهم قصة عجب, وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها, وأخبرنا عن الروح ما هي؟ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبركم بما سألتم عنه غدا) ولم يستثن.
فانصرفوا عنه, فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة, لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل, حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا, واليوم خمس عشرة ليلة, وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه; وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه, وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة, ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم, وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية, والرجل الطواف والروح. } أخرجه ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم و البيهقي عن ابن عباس .. وهذا نص تفسير القرطبي .
__________________________________________________
استغفر الله ..واتوب اليه..