بسم الله الرحمن الرحيم
عشر ذي الحجة الحرام
جامع المصطفي :29/12/2006
الحمد لله الملك العلام ذي الجلال والإكرام ذي الطول والإنعام فاضل بين الليالي والأيام يخلق ما يشاء ويختار . أحمد الله وأشكره وأتوب إليه وأستغفره وأستعين به وأستنصره وأسأله النجاة من النار وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرفه وفضله وزينه وجمله واصطفاه واجتباه ووفقه وهداه فكان خيرة خلق الله . اللهم صل وسلم بارك علي رسول الله محمد خير عبادك وعلي آله وصحبه وكل مسلم آمن بآيات ربه ففاز بقربه وتمتع بحبه وصار علي دربه إلى يوم الدين أما بعد : فأوصيكم وإياي عباد الله بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيان الله ثم أستفتح بالذي هو خير يقول الله تبارك وتعالي وهو أصدق القائلين "والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم لذي حجر "
عباد الله أيها المسلمون :
هذه آيات الله تحمل قسم الله إلى عباد الله والقسم تعظيم المقسم به وهو بالنسبة لنا عبادة ينبغي أن لا ندين بها لأحد غير الله امتثال أوامر الله " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة " واستجابة لما روي الشيخان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله عن بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم سمع رجلا يحلف بأبيه فقال رسول الله صلي الله عليه إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "وسمع بن عمر رضي الله عنهما رجلا يحلف بالكعبة فقال لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ". وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال . قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " لا تحلفوا بآبائكم ولا أمهاتكم ولا بالأنداد . لا تحلفوا إلا بالله . لا تحلفوا إلا وأنتم صادقون " .
أما الله فيقسم بما شاء يقسم بالعوالم سافلها وعاليها يقسم بالكائنات ظاهرها وخافيها يقسم بجميع الأشياء معانيها ومبانيها يقسم بالليل وبالنهار وبالشمس وبالقمر وبالنجوم والبروج وبالكواكب وبالسماوات وبالأرض وبالزمان والمكان يقسم بما تبصرون ومالا تبصرون .
وفي هذه الآيات البينات يقسم الله تعالي بالفجر مطلع الصبح مشرق النور مبعث النفوس من ثباتها تذكرة بالقيام لربها حينما يولي الخوف غير معقب وينتشر الأمن ويستتب فتسري الحركة ويحين السعي ويدب النشاط في كل كائن حي وصدق الله إذ يقول " وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ". " وهو الذي جعل الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا " .
يقسم الله تعالي بتلك الفترة المباركة الهادئة المطمئنة التي توسطت بين ظلام الليل وضحي الشمس فبدت صافية رائقة تمثل أجواء الفراديس بنسيمها العليل وجوها الجميل حينما يهب العابدون إلى مساجدهم يذكرون الله يسبحونه ويحمدونه ويكبرونه بينما الخاملون يغطون في نوم عميق . ذهب الخمول بعقولهم أنهكت ملذات الدنيا نشاطهم . وصح في ذلك ما روي الشيخان الجليلان البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال . قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " يعقد الشيطان علي قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد يضرب علي كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلي انحلت عقده كلها فاصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان وصدق من قال :
الليل ولي ساحبا ذيل الدجي وأتى الصباح بنوره الوضاح
ودعي المؤذن للفلاح فأمه ركب الورى بالمهج والأرواح
طوبى لمن لبي المؤذن هاتفا سبحان ربي فالق الإصباح
كذلك يقسم الله تعالي بالليالي العشر . الثلث الأول من شهر ذي الحجة الحرام حينما تتوالى التجليات وتتابع الرحمات ويعم الرضوان أولئك الطائفين حول بيت الله . أولئك الذين هجروا الأوطان ونبذوا الأولاد وضربوا الآباط والأكباد وأقبلوا شعثا غبرا ملبين النداء " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات علي مار زقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق " . هوت بهم أفئدة استجيبت فيها دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي ذرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون " . وصدق من قال :
ناديتهم فسعوا إليك فكيف لــــــو. كشف الحجاب عن السنا فـــــرأوك
نبذوا الحما والأهل خلف ظهورهم تركوا الحما والأحبة لك تركــــــــا
تلك القلوب تعيش في كنف الرضا مبسوطة لم تشك يوما ضنــــــــكا
تلك القلوب هوت إليك بأهلـــــها لا تشتكي بينا ولا تتشكـــــــــــــى
تهواك لا تهوي سواك لأنـــــــــها رأت التستر دون سترك هـتكا
تهواك لا تهوي سواك لأنــــــــــــها رأت الخضوع لغير وجهك شركا
يقسم الله تعالي بعشر ذي الحجة الحرام تعظيما لما جمعت من مشاهد ومعالم وتكريما لما حوت من مشاعر ومناسك ومواسم . فيه يهرع المسلمون علي تباين جنسياتهم واختلاف ألسنتهم وألوانهم فيحرمون ليتوحد الزي ويتساوي الفقير والغني وخضعت النفوس لبارئها وخشعت القلوب لخالقها وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما . وحد المسلمون مقصدهم وجمعوا كلمتهم حينما عايشوا أول بيت وضع للدين الخالص " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله علي الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ".
اتقوا الله عباد الله وأحيوا هذه الليالي العظام أحيوها بالصيام وبالقيام والصلوات وبالصدقات وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون .
يروي الإمام البخاري رحمه الله عن بن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني عشر ذي الحجة الحرام قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " . ويروي الإمام أبو داو ود رحمه الله عن هنيدة بن خالد رضي الله عنه عن بعض أزواج رسول الله صلي الله عليه وسلم قالوا : كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يصوم تسع من ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر هلالي ويوم الاثنين والخميس ويوم الاثنين من الجمعة الأخرى " . ويروي الإمام الترمذي رحمه الله عن أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من هذه الأيام العشر يعدل صيام كل يوم فيها صيام سنة وقيام كل ليلة فيها قيام ليلة القدر " . وروي أهل الأثر قالوا : كان علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم رجل مسرف علي نفسه كثير المعاصي فلما هل هلال ذي الحجة ذات سنة من السنين أصبح الرجل صائما واستمر علي ذلك فبلغ خبره رسول الله صلي الله عليه سلم فدعاه وسأله ما يحملك علي صوم هذه الأيام ؟ قال : ما بلغني عنك فيها يا رسول الله وإنني لأعلم أنها أيام مناسك الحج وإنني لأرجوا الله أن يشملني بما يشمل به عباده الحجاج فقال له لك ما رأيت ولك بكل يوم تصومه عل مائة فرس يحمل عليها للجهاد في سبيل الله ومائة رقبة تعتق في سبيل الله ومائة ناقة تنحر في سبيل الله فإذا كان اليوم الثامن وهو يوم التروية فلك بصيامه عل ألف فرس يحمل عليها للجهاد في سبيل الله وألف ناقة تنحر في سبيل الله ألف ناقة تنحر في سبيل الله فإذا كان يوم عرفة فلك بصيامه ضعف ذلك كله . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الثانية :
يقول الله " وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات علي ما رزقهم من بهيمة الأنعام " .
عباد الله أيها المسلمون : عن بن عباس رضي الله تعالي عنهما أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة الحرام وتمتد لتشمل الأيام المعدودات التي يذكر فيها الله تعالي والتي من تعجل فيها في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقي .
وقد أكرم الله فيها المسلمين بثلاثة مواسم : ـ
· يوم التروية : وهو اليوم الذي رأي فيه الخليل رؤياه بذبح ولده إسماعيل وفداه الله بذبح عظيم.
· يوم عرفـــة : وهو اليوم الذي نزل فيه " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " ويقف فيه المسلمون علي عرفات الله .
· يوم النــــحر : وهو اليوم الذي يستشعر فيه المسلمون عظمة دينهم ويهبون إلى مساجدهم بالتكبير لله رب العالمين .
ولا يفوتني ونحن مقبلون علي موسم الأضاحي أن أنوه إلى أن الأضحية :ـ اسم لما يذبح من بهيمة الأنعام تقربا إلى الله وهي سنة مؤكدة للقادر عليها لقوله تعالي " فصل لربك وانحر " ولما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال " ضحي رسول الله صلي الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين " . بل إن بعض العلماء أجاز الاقتراض من أجل الأضحية إن كان يملك الوفاء للقرض . وتكون من الإبل والبقر والغنم لقوله تعالي " من بهيمة الأنعام " . ويشترط فيها السلامة من العيوب لما روي الترمذي رحمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم " أربع لا تجزئ في الأضاحي العوراء البين عورها , والمريضة البين مرضها , والعرجاء البين ضلعها , والعجفاء التي لا تنقي " . وسن الإجزاء في الضأن ستة أشهر وفي المعز ماله سنة وفي البقر ماله سنتان وفي الإبل ماله خمس ولا يعطي جازرها شيئا منها كأجرة . ويبدأ الذبح بعد صلاة العيد ويستمر أيام التشريق الثلاثة لما ورد في الحديث المتفق عليه عن البراء بن عازب رضي عنه قال : قال صلي الله عليه وسلم " من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد أتم نسكه و أصاب السنة " . ومن يحسن الذبح يذبح لنفسه ويقول اللهم إن هذا عن فلان بن فلان ويسمي بسم الله . الله اكبر ومن لا يحسن يشهد الذبح . ويسن أن يقسمها أثلاثا ثلث لنفسه ويهدي ثلثا ويتصدق بثلث لقوله تعالي " فكلوا منها أطعموا البائس الفقير " . ومن أراد الأضحية يحرم عليه أن يمس ظفره وشعره لما روي الإمام مسلم والإمام أحمد من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي , فليمسك عن شعره وأظفاره "وفي رواية "فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً حتى يضحي " من نوي أثناء العشر يمسك من وقت ما نوي . ويجوز لأهله الأخذ . ومن أخذ ناسيا فلا شيء عليه ومن اضطر لأخذ شيء زائد فلا شيء عليه ومن خالف فليتب إلى الله ولا يمنعه ذلك من الأضحية ولا كفارة عليه . أما غير القادر فقد ضحي عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم .