أما الخطوات العلمية نحو التغيير فيمكن إجمالها فيما يلي :
1 ـ التأمل في عظم الجناية .
التفكير في التغيير لا يحصل إلا بالتأمل في عظم الجناية نتيجة الغفلة والإعراض عن الله عز وجل , فيشاهد القلب من خلال هذا التأمل عظمة الرب سبحانه وتعالى وقوته وجبروته , وأنه خالق هذا العالم العلوي والسفلي , وأنه رزاق هذه الكائنات جميعاً , وأنه المحيي المميت الفعال لما يريد , وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له , ويشاهد بعد ذلك ضعف نفسه وحقارته وفقره , وهو مع ذلك متعد حدود الله عز وجل , سائر في مساخطه , بعيد عن سبل طاعته , والرب مع ذلك يستره ويرحمه ويرزقه ويحلم عليه , ويوضح له طريق الخير ليسلكه , وطريق الشر ليجتنبه , وهذا التأمل ينتفع به القلب أعظم انتفاع حيث ينزعج من هذا الواقع الذي يعيشه بعيداً عن الله تعالى , ولا يزال يضرب على صاحبه ويحثه على تغيير هذا الواقع والسير في طريق الهداية والاستقامة
2 ـ العزيمة الصادقة :
بعد أن يتطلع القلب إلى التغيير لابد من العزيمة الصادقة على هذا التغيير , لأنه لولا هذه العزيمة سرعان ما يفتر القلب , ويزول عنه هذا الانزعاج , والعزيمة , والعزيمة هي العقد الجازم على المسير في طريق الإستقامة , ومفارقة كل قاطع ومعوق , ومرافقة كل معين وموصل , فهي سبب في استمرار انزعاج القلب وانتباهه ورغبته في التغيير .
والعزيمة نوعان :
أحدهما : عزم الإنسان على سلوك الطريق وهو من البدايات .
والثاني : العزم على الاستمرار على الطاعات بعد الدخول فيها , وعلى الانتقال من حالٍ كاملٍ إلى حالٍ أكمل منه , وهو من النهايات , وعون الله للعبد على قدر قوة عزيمته وضعفها , فمن صمم على إرادة الخير , أعانه وثبته ( 1 ) .
ومتى صدق العبد في عزمه على سلوك طريق الطاعة والاستمرار فيه أعانه الله ـ عز وجل ـ بـ " البصيرة " وهي نور يقذفه الله تعالى في قلبه يرى به حقيقة الأشياء ومحاسن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم , ومساوئ المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم , ويتخلص بالبصيرة كذلك من الحيرة والشك الذي يقطعه عن السير في طريق الهداية والاستقامة .
3 ـ التوبة :
والتوبة هي الرجوع عما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً , وهي واجبة على الفور , لقوله تعالى : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ( النور31 )
والتوبة تتضمن ما يلي :
1 ـ الإخلاص لله عز وجل , بأن يكون قصد الإنسان بتوبته وجه الله عز وجل , وأن يتوب الله عليه , ويتجاوز عن فعل المعصية , لا يقصد بذلك مرآءة الناس والتقرب إليهم , ولا يقصد بذلك دفع الأذية من السلطان وولي الأمر وإنما يقصد بذلك وجه الله والدار الآخرة وأن يعفو الله عن ذنوبه .
2ـ الإقلاع عن جميع الذنوب في الحال .
3ـ الندم على فعلها في الماضي .
4ـ العزم على ألا يعود للذنب في المستقبل .
5ـ العزم على فعل المأمور والتزامه في الحال والمستقبل .
6 ـ أن تكون في زمن تقبل فيه التوبة فإن من تاب في زمن لا تقبل فيه التوبة لم تنفعه التوبة وذلك على نوعين :
النوع الأول : باعتبار كل إنسان بحسبه .
والنوع الثاني : باعتبار العموم
أما الأول : فلا بد أن تكون التوبة قبل حلول الأجل ـ يعني الموت ـ فإن كانت بعد حلول الأجل فإنها لا تنفع التائب لقول الله عز وجل {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ( النساء18 ) هؤلاء ليس لهم توبة !
وقال تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ , فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ }( غافر84 , 85 ) .
فالإنسان إذا عاين الموت وحضره الأجل فهذا يعني أنه أيس من الحياة فتكون توبته في غير محلها , بعد أن يئس من الحياة وعرف أنه لا بقاء له يذهب فيتوب ! هذه توبة اضطرار فلا تنفعه ولا تقبل منه لابد أن تكون التوبة سابقة .
النوع الثاني :هو العموم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن " الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة , ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع أحداً توبة , قال الله سبحانه
{ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ }( الأنعام158 ) وهذا البعض هو طلوع الشمس من مغربها كما فسر ذلك النبي عليه الصلاة والسلام .
7- إن كان الحق متعلقاً بآدمي فعليه أن يرد له حقه ...( 2 )
فالتوبة إذن هي البداية العملية للتغيير , ولا تصح عملية التغيير بدون توبة , والتوبة كذلك تصاحب الإنسان في جميع مراحل حياته , فليست خاصة بالعصاة كما يفهم بعض الناس , بل إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أطوع الخلق قال : " يا أيها الناس , توبوا إلى ربكم , فو الله إني لأتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة " ( رواه مسلم ) .
( 1 ) رسالتان للحافظ ابن رجب ص " 27 "
( 2 ) الشرط الأول والسادس من شروط التوبة أضفته لاهميته من شرح رياض الصالحين للشيخ العلامة ابن عثيمين رحمه الله المجلد الأول " الباب الثاني ـ باب التوبة " في مقدمته عن التوبة . أما الشرط السابع فقد أضفته من عندي من خلال ما سمعته من العلماء
الروابط المفضلة