بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلَّهِ, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ* وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ * وبعد:

استوقفتني إشارة مرور حمراء ، وتهادت السيارات من حولي ومن خلفي في انسياب ، تتكاثر في طوابير ممتدة ، فالساعة الآن ساعة انصراف الناس من أعمالهم .
فجأة ارتفع صوت نشاز على مقربة من سيارتي ، فالتفت بتلقائية إلى حيث مصدر الصوت النشاز ، فإذا شاب في سيارته الفارهة ، وقد رفع صوت أغنية غربية عنيفة ، كأنما تحسب المغني خلالها يعوي أو يولول ، أو ينوح على نفسه و على الدنيا !!

وإذا بالشاب قد بدا منفعلاً ، يكاد يرقص وهو يجلس خلف المقود ، وقد أخذ بكلتا يديه يطبل ، وجسده يهتز كأنما به صرع ، وعيناه تلعبان هنا وهناك وإذا به يصيح مع المغني كمن صفع على قفاه .
بل خيّلَ إليّ أن السيارة نفسها قد أخذت تهتز معهما ، كأنما أصابها مس هي الأخرى ، وفركت عيني فإذا هي كذلك ، لقد استطاع الشاب أن يرقصها معه بطريقة معينة ..!

ولاحظت أن كثيرين قد أخذوا يتطلعون إلى هذا المنظر العجيب ، بعض الناس أخذ يقلب شفتيه في استخفاف ورثاء ، البعض الآخر أخذ يحرك رأسه كالمتأسف على ما وصل إليه حال شبابنا ، وآخرون اخذوا يتمتمون لا ادري أكانوا يلعنونه أو يدعون له ، أم يدعون عليه ، أما الشاب فإنه لم يبالِ بوقع هذه النظرات النارية ، بل لقد اخذ يبادلها بنظرات تحدٍ واستخفاف ولسان يندلع ، وهياج يشتد ، وضحكات تعلو ، وجسد يشتعل تكاد تجزم بأن هذا لم يكن في كامل عقله في تلك الساعة ..!

وفتحت الإشارة الخضراء أبوابها ، وتأهبت السيارات للتحرك ، غير أن الشاب كان قد طار بسيارته بسرعة مجنونة ، بعد أن احدث بإطاراتها صوتاً مدوياً مشاركة في النعيق الذي يطلقه صاحبها منذ هنيهة ..!
وانسابت سيارتي ببطيء السلحفاة ..!

وظل ذهني مشتعلاً حتى الذروة ، أهؤلاء هم شباب الوطن الغالي ؟!
أهؤلاء هم معقد الآمال الذي ترتكن عليهم البلاد إذا اشتدت بها المحن ؟!
أعلى مثل هؤلاء يكون الاتكال والاعتماد في الدفاع والحماية عن الأوطان والأعراض ؟! أهؤلاء " المشوهون " " المخدّرون " يمكن أن يكونوا محل خير للعباد والبلاد ؟! .

ومضي بي الفكر أشرّقُ تارة وأغرّبُ أخرى ، وأضرب أخماساً في أسداس ، حتى انتهى بي المطاف إلى أن الأمة التي يكون شبابها على هذه الشاكلة ، فإنها أمة توشك أن تنهار فتدوسها أقدام السائرين بلا اكتراث ..
فالشباب هم عماد الأمة .. هم عصبها الحي ..
هم مؤشر حياتها أو موتها ، ومن ثم فإذا افسد الشباب فلا تنتظر من الأمة بعد ذلك ، أن تحيا حياة طيبة كريمة عزيزة .
وتواردت الخواطر ، يردف بعضها بعضاً ، ويقوى بعضها الآخر ، فتذكرت القصص الكثيرة التي يتسامعها الناس عن أمثال هذا الشاب الأرعن ..
أولئك الذين يحومون حول مدارس البنات في كل ظهيرة ، وأولئك الذين يطيرون من ملهى إلى ملهى في كل ليلة يبعثرون
ما في جيوبهم في هوس وجنون ، وأولئك الذين يتزينون بأزياء النساء ليتسنى لهم دخول أماكن النساء والاختلاط بهن ، وأولئك الذين اقبلوا علـى شم أنـواع من السمـوم ، وغيـرهم أصناف وأصناف يتناول النـاس أخبـارهم بأحط سيرة ..!.

وأطلقت العنان لفكري على هذا المنوال ، وسرت مسافة ليست بالقصيرة وأنا على هذه الحالة ، الإشارات في تتابع ، تفتح لي أبوابها الخضراء ، كأنها لا تريد أن تقطع على حبل هذه الخواطر ، ويبدو انني حين بلغت الذروة حجزتني إشارة حمراء جديدة ، كأنما تقول لي : إلى هنا وأنتبه ....!
ووقفت .. ووقفت بجانبي سيارة ثم أخرى ثم بدأت السيارات تتقاطر ، وإذا بي اسمع صوتاً شجياً مؤثراً – غاية في التأثير –
صوت قارئ للقرآن ينبعث من آلة تسجيل في السيارة المجاورة لي تماماً ، وبتلقائية التفتُ إلى حيث الصوت الشجي المعطر ، فإذا وراء المقود شاب – لعله في عمر الشاب السابق – قد استرسل مع الآيات ، حتى خيّل لي أن دمعات في عينيه تتردد توشك أن تسقط على استحياء .
كان وجه الشاب مشرقاً أو هكذا بدا لي ، كأنما فاضت عليه أنوار القرآن حتى غمرته ، فالتأثير بادٍ على محياة ، كأنما قد بكي قبل أن تقف به سيارته تحت هذه الإشارة الحمراء ، صفاء السماء مطبوع على ملامح وجهه ، وهدوء البحر ينبعث من عينيه الدامعتين ، وجو ملائكي عجيب يحيط به في جلاء ، والآيات القرآنية تسمو بالروح وتظل تسمو وتسمو وتسمو ..
استثارني المشهد بعنف ، ودبت قشعريرة في جسدي كله ، أحسست وقعها في مفرق رأسي ، وإذا بي ابتسم وأنا أتنفس الصعداء ، ثم أقول لنفسي :
هذا خير جواب على ذاك ..! ومازال في الدنيا خير ، ولا يزال في شبابنا من هو جدير بكل الحب وبكل الخير ، وعلى أمثال هؤلاء تقوم الأمم ، ويبقي الأمل معقوداً ، ويظل للرجاء نصيب في القلوب ، وبأمثال هؤلاء يمسك الله العذاب عن أمة فيها أمثال أولئك الوالغين في المستنقع ..!

وقصصت ما رأيت في انتشاء على مسامع بعض من أعرف ، فتبسم أحدهم وقال : أزيدك من الشعر بيتاً ، يدور له رأسك ، ويزداد به يقينك ، إنني اعرف شباباً كان حالهم أسوأ بكثير من صاحبك الأول ، ثم انتقل بهم الحال فصاروا افضل بكثير من صاحبك الثاني ..؟

وقصّ قصصاً عجيبة في هذا ، عن فتيان وفتيات انتقلوا من النقيض إلى النقيض ، من الظلمات إلى النور ، من الضلالة إلى الهدى ، من الموت إلى الحياة ، من حياة الضنك والحيرة إلى حياة مليئة بالاطمئنان والخير والصلاح ، ومعظم هؤلاء كان سبب نقلهم حادثاً عابراً ، أو موقفاً مروا به أو كلمة صادقة مخلصة قرأوها أو سمعوها ، أو ما شاكل ذلك من ظروف وأحوال متنوعة ..

وعلمت يقيناً أن المسلمين – رغم كل شيء – إلى خير إن شاء الله ، وان هذه الأمة ستفيء إلى الله سبحانه يوماً ما ، وان هؤلاء الشباب لا ينبغي اليأس من تغييرهم إلى الأحسن ، والمريض لا يحتاج إلى من يعنفه أو يستهزئ به ، أو يسخر منه ، بقدر ما هو أحوج إلى الطبيب العاقل الحكيم ، الذي يحمل هم علاجه ويسعى جاهداً صابراً إلى محاولة إنقاذه باللطف والرحمة والكياسة ..

ومن قال : هلك المسلمون ، فهو أهلكهم – كما في الحديث الشريف –
ولا يزال الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على مر الأيام ، وكر الدهور حتى تقوم الساعة والأيام دول ، والليالي قُلّب ، وساعات الشدة تحمل في طياتها ساعات الفرج ، والشاردون اليوم ، قد يكونون هم حاملي اللواء غداً ..

وقد حدث هذا من قبل وما زال يحدث اليوم في أماكن كثيرة ، وسيبقى كذلك إلى أن تقوم قيامة الناس ..! وموتوا بغيظم أيها الحاقدون ..!
ولكن تبقي سنن الله ماضية في طريقها :

( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..)
(. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)

وبقدر ما كنت أدعو على ذلك الشاب الأول الذي رأيته ، أصبحت الآن أدعو له من كل قلبي كلما ذكرته ..
واسأل الله عز وجل أن يستجيب دعواتي له فيهديه سواء السبيل ، ليذوق حلاوة الطاعة فتنسيه وهم لذاذة المعصية ..
فإن هذا وأمثاله واهمون فحسب لأنهم مخدّرون ..!
ومتى أفاقوا من جرعة التخدير التي هم فيها سيدركون الحقيقة !
والله سبحانه أعلم
وأستغفر الله من أي زلة أو خطأ أو نسيان ...
منقول