بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قرأة هذه المقالة فما رأيكم فيها
إنـهم يســـتقوون بضعفنــا
جريدة الأهرام 02/04/2002
بقلم: فهمـي هـويـــدي
لا يمكن أن يكون هذا آخر ما يملكه العرب حقا: أن يكتفوا بمجرد إطلاق مبادرات السلام, وأن يلحوا علي صاحب البيت الأبيض كي يتدخل لكبح جماح إسرائيل. ولا يمكن أن يغيب عن أهل القرار العرب أن الوقوف عند هذه الحدود لايردع إسرائيل عن مواصلة سياسة البطش والاستئصال بمنتهي الاطمئنان, واثقة من أن طريقها مفتوح بفضل الصمت العربي الذي يرفع الرايات البيضاء, وظهرها مؤمن ومضمون بفضل الغطاء الأمريكي المتفهم لكل ما تفعل!
(1)
حين اعتلي خطيب مسجدنا المنبر يوم الجمعة الفائت, الذي تم فيه اجتياح الإسرائيليين مدينة رام الله, بدأ كلمته بدعاء لحوح استمطر فيه اللعنات علي الصهاينة, وسأل الله أن يثبت المجاهدين في فلسطين, وأن يكلأهم بنصر من عنده. وبعدما أطال في ترديده للأدعية, قال للمصلين: إنه كان قد جهز نفسه لكي يتحدث في موضوع معين, لكنه حين شاهد ما جري في رام الله علي شاشات التليفزيون قبل أن يغادر بيته إلي المسجد, تبخر كل ما في رأسه, ولم يعد يفكر إلا فيما يجري في فلسطين ولأهلها عشية يوم الأرض. وظل ينعي علي الأمة العربية والإسلامية عجزها, ثم نبه المصلين إلي أنه سيطيل من السجود حتي يتاح لكل واحد أن يبذل غاية جهده في الدعاء لله سبحانه وتعالي, أن يشمل الفلسطينيين بالتسديد والنصر.
وبرغم أن الجو المخيم علي المسجد كان مشحونا بالانفعال والتأثر, فإن حبل الانفعال انقطع ـ عندي علي الأقل ـ حين سمعت الخطيب في النهاية, وهو يدعو بالنصر أيضا لجيوش المسلمين. فاجأني الدعاء من حيث أنه ذكرني بأن للمسلمين جيوشا تضم مئات الألوف من البشر.
تصبح الصورة أكثر مدعاة للإحباط حين نذكر أننا نتحدث عن22 دولة عربية ذات جلال وقدرة, لم تنجح حتي الآن في تقديم نفسها باعتبارها فريقا يعمل له حساب, وتتوافر له إرادة التأثير, خصوصا منذ أخرجت القوة العسكرية من معادلة الصراع, بعدما تبرعنا في عام1973 بالإعلان عن أن الحرب التي جرت آنذاك ستكون آخر الحروب, وهو الادعاء الذي لم تأخذه إسرائيل محمل الجد, فمضت تضاعف من قدرتها العسكرية معتبرة أن حروبها بلا آخر.
ومن عجائب القدر ومفارقاته أنه بينما انسحبت الأمة العربية عمليا من ساحة المواجهة العسكرية, فإن الوحيدين من العرب الذين وقفوا في الساحة ونجحوا في أن يخاطبوا إسرائيل باللغة التي تفهمها حقا, كانوا أولئك الشبان العزل في جنوب لبنان وفلسطين, الذين جاءوا من حيث لا نحتسب, رافعين لواء الشهادة والفداء. وها نحن نري الآن كيف هزموا إسرائيل في جنوب لبنان, وكيف أنهم في فلسطين نجحوا في أن يوجهوا بأجسامهم المفخخة ضربات موجعة إلي صلب المشروع الصهيوني. نعم.. دفعوا من جراء ذلك ثمنا باهظا, لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أنهم نجحوا في أن ينقلوا الخوف إلي إسرائيل, وأن يقنعوا كل إسرائيلي بأنه لن يكون آمنا مادام الاحتلال مستمرا وبقي داخل حدودها, خلافا للحلم الذي سوقه آباء الصهاينة ممن استجلبوهم من شتات الأرض بزعم إنهاء معاناتهم واستقرارهم في أرض المعاد.
وإزاء اهتزاز الثقة في المشروع فإن كثيرين أصبحوا يتداولون السؤال الكبير عن إمكان استمرار وجود إسرائيل نفسه, وهو السؤال الذي خصصت مجلة نيوزويك ملفا في عددها الأخير(4/2) لمحاولة الإجابة عنه, ناهيك عن أولئك الذين استبقوا الإجابة من الإسرائيليين, وغادروا البلاد بالفعل إلي غير رجعة.
(2)
في الوقت الراهن بوجه أخص غدا الاستشهاد سلاحا وحيدا لمواجهة القوة الإسرائيلية الطاغية, والنفاق الدولي الذي يصل إلي حد التواطؤ, والصمت العربي المفجع. لم يعد الأمل معقودا علي قرارات دولية أو مبادرات من أي نوع, أو وساطات من هذا الطرف أو ذاك. أما كل ما وقع من اتفاقات وما جري تداوله من مشروعات وتفاهمات, فهو إما نسف من قبل الحكومة الإسرائيلية, أو تجاوزته المرحلة وأصبح بكثير دون التضحيات الهائلة التي قدمها الفلسطينيون.
إذا أردنا تحرير الواقع والتعامل مع معطياته الراهنة, فلا مفر من أن نعترف بأن كل أملنا صار معقودا علي بطولة أولئك الشبان والفتيات البواسل الذين وحدهم أصبحوا قادرين علي تحدي القوة النووية الإسرائيلية, والرد علي التواطؤ الأمريكي الفج, وتعويض العجز والخنوع العربيين.
فقط بأمثال عبد الباسط عودة منفذ عملية ناتانيا, ومحمد صلاحات الذي فجر نفسه في مقهي تل أبيب يوم السبت الماضي, وبأمثال إيمان إدريس وآيات الأخرس ودارين أبو عيشة, بأمثال هؤلاء الأبطال نستمد روح التفاؤل والثقة, ونلمح شعاعات الفجر الآتي, ونطمئن إلي أن الأمة لم تمت بعد, حيث لا يزال فيها نبض حياة, وبعض خلايا لم يصبها العطب, وأثر من العزة لم يتلوث أو يتآكل بعد.
في هذه اللحظات, والأمة من الخليج إلي المحيط, تتلهف لسماع أخبار عمليات أولئك الأبطال البواسل, وتنتظر علي أحر من الجمر ظهورهم في الأفق لتوصيل الرسالة الصحيحة إلي القتلة علي العنوان الصحيح, ينبغي أن نشعر بخجل ليس فقط لقصورنا وعجزنا ــ وذلك سبب كاف لاريب ـ ولكن أيضا لبؤس خطابنا وبعض حواراتنا خلال الفترة الماضية.
إذ لا أعرف ما الذي ستقوله الأجيال القادمة عنا, حين تقرأ في كتب التاريخ أنه بينما كان الاحتلال جاثما فوق الصدر الفلسطيني, وبينما كانت جراراته تقيم المستعمرات ومجنزراته تتولي تجريف الأرض وهدم البيوت, وبينما كانت فرق الاغتيالات الإسرائيلية تتصيد المناضلين الفلسطينيين, بينما كان ذلك حاصلا فإن البعض منا لم يتردد في وصف المقاومة الفلسطينية بالإرهاب, والمعتدلون الذين أرادوا أن يمسكوا بالعصا من الوسط ادعوا أن ما يمارسه الفلسطينيون هو عنف يتساوي في كفة الميزان مع العنف الإسرائيلي, ثم دعا إلي وقفه لفتح الطريق لتكريس الاحتلال في ظل ما يسمي بمسيرة السلام.
بالمثل فلست أعرف ماذا سيقول التاريخ عنا حين تسجل صفحاته أنه بينما شباب المقاومة الباسلة يتسابقون علي نيل الشهادة, مضحين بأرواحهم من أجل أن تعيش أمتهم حياة تظللها الكرامة والعزة, كان البعض منا يتأسي علي الدم الإسرائيلي, متجاهلا شلال الدم الفلسطيني النازف منذ نصف قرن علي الأقل, كما أن آخرين صاروا يتنطعون وهم يجادلون فيما إذا كان هؤلاء الأبطال انتحاريين أم شهداء!
طويلة وحافلة قائمة تجليات البؤس في حواراتنا, والأسباب الموجبة للشعور بالخجل والخزي, حتي أحسب أنني لو توقفت عندها لامتدت حبال الحديث, ولصرفني ذلك عما تمنيت أن أنبه إليه في صدد الحاضر والمستقبل. لكني قبل أن أغادر النقطة لا أستطيع أن أعبرها إلي غيرها دون التذكير بالفخاخ التي وقعنا فيها حين شغلنا حينا من الدهر بالحديث عن ثقافة السلام بينما العدو الإسرائيلي يواصل في الوقت نفسه خنق الشعب الفلسطيني ودفن قضيته.
وحين خدعنا أنفسنا طوال الوقت, ولم نمل من مخاطبة الولايات المتحدة باعتبارها راعية للسلام, بينما يعلم كل ذي حس سليم أنها حليف لإسرائيل, وشريك لها في العدوان, حارس ومتستر علي كل جرائمها. وقد أصبح ذلك الموقف من مسلمات المشهد, التي أكدتها تصريحات وزير الخارجية الأمريكية الأخيرة ـ فضلا عن رئيسه ـ حين عبرت عن تفهم الأسباب التي دفعت إسرائيل لاجتياح مدن الضفة والبطش بكل ما فيها, وأنحي باللائمة في كل ما جري علي عرفات والمتشددين الفلسطينيين. ومع ذلك فإننا لا نكف عن مناشدة الإدارة الأمريكية أن تتدخل لإيقاف إسرائيل عند حدها!
(3)
ما يجري الآن ليس مجرد بطش أعمي, وإن كان كذلك في شق منه, ولكنه ترتيب لقلب الطاولة وإعادة صياغة الموقف الفلسطيني من جديد, والترويع من مشاهد ذلك الترتيب, واستئصال قيادات المقاومة الميدانية بعد تصفية عناصرها مشهد آخر, ثم تصفية واعتقال القيادات السياسية التي مازالت متمسكة بثوابت القضية, مشهد ثالث. والحصار الراهن للرئيس عرفات الذي يراد له أن يستمر عدة أيام مشهد آخر له هدفان علي الأقل, أولهما إذلال الرجل وإنهاكه, وإضعاف موقفه, ومن ثم إجباره علي القبول بما لم يقبل به من تفسيرات إسرائيلية وأمريكية لما سمي بتفاهمات تينيت.
وثانيها: توجيه رسالة تعلن التحدي للأمة العربية كلها, في وقت لم يكن حبر المبادرة التي تبنتها القمة العربية قد جف بعد. والتحدي في هذه الحالة مسكون بدرجة غير خافية من الاستعلاء والازدراء. إذ برغم أن العرب قدموا في المبادرة أقصي ما يمكن أن يقدموه, ووفروا لإسرائيل ما تريده من اعتراف وسلام ظلت تنشدهما طيلة نصف القرن المنصرم, فإن القيادة الإسرائيلية اعتبرت أن ذلك كله لا يكفي, وآثرت أن تتعامل مع القضية بطريقتها الخاصة, ساعية إلي فرض الحل الذي تريده بالقوة.
المشهد التالي هو: إرغام عرفات علي التوقيع علي ما تريده إسرائيل والولايات المتحدة, ثم التخلص منه بعد ذلك, بالإبعاد في الأغلب, لكي يتولي القيادة في فلسطين من ترضي عنهم تل أبيب وتعتبرهم أكثر مرونة وأفضل استعدادا للتعاون معها. وفي هذه الحالة ستأتي القيادة الجديدة وكأنها نظيفة اليد لكي تتعامل مع واقع أقره عرفات, وليست مسئولة عما فيه من نقائص أو ثغرات, وليس مستبعدا أن يذهب الإسرائيليون في التجبر والتحدي إلي حد إبعاد عرفات من البداية, ثم الإتيان بالقيادة الفلسطينية الجديدة المتجاوبة معها بدرجة أكبر, لكي تقوم هذه الأخيرة بتمرير ما يريده الإسرائيليون لفرض هيمنتهم علي المقدرات الفلسطينية.
الروابط المفضلة