الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم - أيها المسلمون - ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.

أما بعد، فيا عباد الله:

ما وقعت أمة في مصيبة أو مَهْلكة فلاذت منها بصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى والتضرع على بابه وأعتابه إلا وأنقذها الله سبحانه وتعالى من تلك المَهْلكة وأبدل عسرها يسراً. وما وقعت أمة في ضنك أو مَهْلكة فلاذت منها بالاعتماد على ذاتها. لاذت منها بالاستكبار على ما قد متعها الله سبحانه وتعالى به من قوة إلا ووَكَلها الله سبحانه وتعالى إلى ذاتها وتركها تتقلب في مَهْلكتها ومصيبتها.

هي سنة من سنن الله سبحانه وتعالى لا تتبدل. وصدق الله القائل في محكم تبيانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ، فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 6/42-44].

ومن هنا ما ينبغي يا عباد الله ألا يركن المسلم إلى اليأس مهما وجدت الشدائد تحيط بالمسلمين عن يمين وشمال، ومهما وجد أسباب المَهْلكة بل أسباب الشقوة مدلهمة تأتي من حَدَب وصوب، فما ينبغي أن ينسى أن الباب مفتوح، وأن من وَلَجَه نجا {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف: 12/87] أي من نجاة الله ولطفه {إِلاّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [يوسف: 12/87].

وأنا أحب أن أضع أمامكم نماذج من التاريخ الذي ينطق بهذه السُّنة الربانية التي يأخذ بها عباده، يأخذ الله عز وجل بها عباده لعلها توقظنا من غفلة، ولعلها تنبهنا إلى الدواء بعد استحكام الداء، والوقت يضيق عن سرد التاريخ كله. ولكني أضعكم أمام لقطات:

مُنِيَ العالم الإسلامي في هذا الصَّقع المبارك بالحملات الصليبية كما تعملون؛ تمكَّن الصليبيون من هذه البلاد حتى ظن ظانُّهم من المسلمين أن هذا البلاء لا سبيل لارتفاعه، وأن هذه البقعة من أرض الله الإسلامية قد زالت وقد احتُلَّت من قِبل أعداء الله سبحانه وتعالى، ولبث الصليبيون ما شاء الله لهم أن يلبثوا، فما الذي حصل بعد ذلك؟ كانت النجاة عن طريق هذه السُّنة الربانية التي حدثتكم عنها؛ ظهر نور الدين زنكي ومعه صلاح الدين الأيوبي وكان السلاح الذي استعمله كل منهما - السلاح الأول - كان السلاح الأول والأمضى الذي استعمله كل منهما هو صدق الالتجاء إلى الله، والتضرع على أعتاب الله سبحانه وتعالى. ومن وقف على سيرة نور الدين علم أي رجل كان في بكائه في تبتله في وقوفه أمام باب الله سبحانه وتعالى يستنزل النصر بألطاف الله عز وجل. وكان تلميذه وقريبه صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى سائراً على النهج ذاته، قلبَّى الله سبحانه وتعالى دعوة الداعين، وأجاب التجاء الملتجئين، وطهر الله سبحانه وتعالى هذه البقعة من فلول الصليبية، وعادت إلى خيرٍ مما كانت عليه سابقاً تمسكاً بالإسلام والتزاماً بهدي سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم خير الأنام.

الوسائل المادية لا تُنْكَر، ولكنها الجسد الذي يحتاج إلى روح، وروح هذه الوسائل إنما كانت صدق الالتجاء إلى الله، وصدق التضرع باستمرار على أعتاب الله سبحانه وتعالى.

جاء دور ما يسمى بالدول المتتابعة، وتفككت أوصال الوحدة الإسلامية في هذه البلاد، وعادت كما يقولون إلى دويلات، ولربما تسرب اليأس ثانية إلى قلوب كثير من الناس. ولكن ما الذي حصل بعد ذلك؟

استنجد المسلمون، استنجد الربانيون من عباد الله عز وجل بهذا الدواء، هُرِعوا إلى أعتاب الله عز وجل، وكانت فاتحة استعمال هذا الدواء تلك السيرة التي عرفتموها أو التي يَنبغي أن تعرفوها عن حياة عثمان أرطغل جد خلفاء العثمانين. هذا الإنسان الذي كان مضرب المثل في التذلل لله، والتذلل والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، هو الذي، ربما سمعتم عنه، دخل الغرفة التي هيأها له قريبة في البورصة ليرقد فيها، فلما أراد أن يتمدد فينام وجد مصحفاً معلقاً على الجدار فاتخذ موقف الجندي من ضابطه الأشم ولم يتحرك إلى الفجر واضعاً كفاً فوق أخرى ينظر إلى كتاب الله سبحانه وتعالى.. ولما أُذِّن للفجر وعلم صاحب الدار أن ضيفه لم يرقد تلك الليلة، سأله فيمَ ذاك؟ قال: كيف أتمدد في مكان رأيت فيه كتاب الله سبحانه وتعالى يناجيني ويخاطبني!

أكرمه الله سبحانه وتعالى بما تعرفون، طوي عهد الدول المتتابعة وعادت دولة الإسلام قوية واحدة من جديد كما تعلمون.

أأزيدكم أيها الإخوة من الأمثلة؟

دول الطوائف في الأندلس، ما يسمى بعهد ملوك الطوائف، ذلك العهد التي تحطمت فيه صخرة الدولة الأموية الإسلامية في الأندلس، وتحولت إلى نِثار، إلى دويلات صغيرة ضعيفة، وراعي كل دولة يستعين لحماية بقعته بالإسبان، يستعين لحماية دولته بأعداء الله سبحانه وتعالى. عهد من الذل قلّ أن تجد مثله في تاريخ العالم الإسلامي، يُذَكِّر بحال الدولة العربية اليوم، كيف تناثرت، وكيف الكثيرون منها يطرقون أبواب الأعداء ليستنجدوا بهم وليستعينوا قوة من قوتهم لينتصروا بهم على جيرانهم وإخوانهم.

ما الذي حصل بعد ذلك أيها الإخوة؟

لو نظرنا وقد نسينا سنة الله عز وجل في عباده لكان اليأس هو السبيل الذي لا بديل عنه، ولكن الله يقول: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ} [يوسف: 12/87]. باب الله مفتوح لا يغلقه الله دون أحد، وسبيل الالتجاء إليه مُيَسَّر، وهو يقول لكل من لاذبه لبيك.

ظهر يوسف بن تاشفين في هذه الصحراء الغربية، ومن هو يوسف؟ هو ذلك الزاهد، ذلك الذي كان يلبس المخشوشن من الثياب، ذلك الذي لم يكن يأكل إلا ما يبقي عليه الرمق، ذلك الذي خاض قلبه خوفاً من الله ووجلاً، ذلك الذي كان يُمْضي الليل لاجئاً متضرعاً مستغيثاً بالله سبحانه وتعالى. جعله الله سبحانه وتعالى مفتاحاً لنصر جديد، استنجد به المسلمون في بلاد الأندلس، وشاء الله سبحانه وتعالى أن يلبي يوسف بن تاشفين هؤلاء المستنجدين. بأي سلاح أقبل إليهم؟ بسلاح التضرع على أعتاب الله، بسلاح الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى، ثم إنه استعمل بعد ذلك ما يستعمله الآخرون أيضاً. فماذا كانت النتيجة؟ تضافرت تلك الدويلات مرة أخرى، وعادت القوة مرة ثانية إلى الدولة الإسلامية، وتلاحمت قطع تلك الصخرة العاتية القوية في قلب أوربة.

ماذا كان الدواء أيها الإخوة؟ صدق الالتجاء إلى الله.

{فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 6/43] كم هو لطيف هذا الكلام بهذا الأسلوب؛ هلاّ تضرعوا عندما وجدوا الشدة! تلك هي سنة الله سبحانه وتعالى في عباده أيها الإخوة.

واليوم كلنا ننظر ونرى هذه الخطط المحبوكة التي ترمي من قوس واحد إلى هدف واحد؛ القضاء على البقية الباقية من فاعلية الإسلام، من عزة المسلمين، من غنى المسلمين، من ثروات المسلمين، أملاً في أن يصبح هذا العالم الإسلامي بكل ما يعتز به ويملك أثراً بعد عين. وإنكم لترون كيف أن الوسائل تضيق علينا الخناق، ثم تضيق، ثم تضيق.
ما الملاذ منها؟ دعوني من الأسباب المادية التي لا خلاف في ضرورة الالتجاء إليها. لكنني أعود فأقول لكم ما فائدة الجسد إذا انفصلت منه الروح؟ ماذا عسى أن يفعل بك الجسد؟ لابد من الروح.

ما العلاج أيها الإخوة؟ سؤال أطرحه لإخواننا المسؤولين القادة قبل أن أطرحه على نفسي وعليكم. السبيل للخلاص من هذا البلاء اليوم هو السبيل الذي خلّص أسلافنا من أمثال ذلك من البلاء بالأمس، الالتجاء إلى الله، صدق التوبة والإنابة إلى الله عز وجل. أقولها لنفسي وأقولها لكم وأقولها قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك لقادتنا، أنيبوا إلى الله، أصلحوا الحال مع الله، اصطلحوا مع الله سبحانه وتعالى، ثم ضعوا عبوديتكم لله عز وجل موضع التنفيذ. نحن عبيد شئنا أم أبينا أيها الإخوة، فلماذا لا نستنطق عبوديتنا بهذه الحقيقة؟ التجؤوا إلى الله تضرعوا على أعتاب الله بصدق ووجل، التصقوا بأعتاب كرمه وجوده واجعلوا من ذلك ورداً مستمراً، وأنا الضامن وأنا الكفيل بأن الله عز وجل سيبدل عسرنا يسراً، وبأن الله عز وجل سيبدل ذلنا عزاً، وبأن الله سبحانه وتعالى سيبدل فقرنا غنىً، ولسوف يبدل ضعفنا قوة وأي قوة، ولسوف يذوب الطغيان، ثم إنه سيذوب، ثم يزول.

من كان في ريب من هذا الذي أقول فلينظر إلى التاريخ وليتبين حقيقة ما أذكّر به. هذه الحقيقة أيها الإخوة اعلموها.

بالأمس قلت شيئاً ينبغي أن أعيده إليكم، ولعل آذاناً أخرى تسمع: عقبة بن نافع ذلك التابعي الجليل الذي رحل داعياً إلى الله مجاهداً في سبيل الله إلى أن وصل إلى المغرب الأقصى، عسكر في مكان كله غابات وأدغال ملينة بالوحوش والسباع الضارية المختلفة، ونظر فوجد أن هذه بقعة استراتيجية كما يقولون، وهي البقعة التي يستطيع أن يتخذ منها منطلقاً للأماكن الأخرى داعياً إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنها بقعة مليئة بالسباع الضارية، عند فدعا الصحابة الذين كانوا معه في ذلك الجيش ومن معهم، وجلسوا بين تلك الأدغال من الصباح إلى المساء يضرعون إلى الله ويلتجئون إليه أن يطهر هذه البقعة من هذه السباع الضارية؛ لأنهم إنما جاؤوا من الجزيرة العربية إلى هناك منفذين أمره داعين إلى دينه يُبَصِّرون الناس بحقيقة هذا الإسلام الذي شرّف الله به عباده. وقام عقبة في ختام التجائه إلى الله يتجه بخطاب إلى تلك السباع الضارية، يقول لها: أيتها السباع أيتها الدواب المنتشرة في هذه البقاع إنما جئنا إلى هذا المكان رسلاً نؤدي رسالة الله سبحانه وتعالى، فهلاّ ابتعدتم عنا وتركتم هذه البقعة لنُلَبِّي نداء الله عز وجل وننفذ أمره. في تلك الأمسية نظر الناس فوجدوا أن هذه السباع تحمل صغارها وترحل، هذه السباع على اختلافها تحمل صغارها وترحل، وبُني في ذلك المكان بُنِيت مدينة القيروان.

أيها الإخوة! اعتبروا، إن لم تريدوا أن تعتبروا بكلام الله فاعتبروا بمصداقة، اعتبروا بهذا التاريخ.

أقول قولي هذا وأسأل الله عز وجل أن يكرمنا بصدق الالتجاء إليه والتضرع على بابه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.

خطبة للشيخ الفاضل / د. محمد سعيد رمضان البوطي ..
للاستماع للخطبة : هنــــــــا

الحبيبة فى الله حمامة الجنة ما وقع بلاء الا بذنب و ما رفع الا بتوبة
اهم ما نحتاجه الان التوبة و الامر بالمعروف و النهى عن المنكر و نسأل الله السلامة
و جزاك الجنة على هذا النقل الموفق

الله يجزاك عنا كل خير

وانشاء الله لك الاجر والثواب

ويعطك العافيه عالخطبه ...

ما وقعت أمة في مصيبة أو مَهْلكة فلاذت منها بصدق الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى والتضرع على بابه وأعتابه إلا وأنقذها الله سبحانه وتعالى من تلك المَهْلكة وأبدل عسرها يسراً.

سبحانه ما اوسع رحمته,,

جزاك الله خير يالغالية,,

اثابكِ الله غاليتي

جزاكن الرحمن خيراً أخواتي الحبيبات وبارك فيكنّ

بارك الله فيك

جزاك الله خيرا وأيقظ أمتنا وأنقذها

أحب اسمك جدا

جزاكما الله خير جزاء أختاي الحبيبتان ..

أحب اسمك جدا

تسلمي عزيزتي..
جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة ..

كل كلمة جوهرة...
جزاكِ الله خيراً أختي الحبيبة، و بارك لنا في عمر الشيخ..