شيء آخر هو أن الحج بشكل يغلبُ عليه أنه دعاء كله ، ففي طواف القدوم دعاء ، وفي السعي بين الصفا والمروة دعاء ، وفي الإقامة بمِنَى دعاء ، وفي الوقوف بعرفة دعاء ، وفي الوقوف بمزدلفة دعاء ، وفي أثناء رمي جمرة العقبة دعاء ، وفي طواف الإفاضة دُعاء ، وفي الإقامة بمنى في أيام النحر وأيام التشريق ورجم الجمرة الأولى والثانية والكُبرى دعاء ، وفي طواف الوداع دعاء ، وكما قال عليه الصلاة والسلام : " الدعاء هو مخ العبادة " .
إنّ مخ العبادة الدعاء ، فإذا دعوتَه لا بدَّ أن يستجيب لك ، فإذا كان الدعاء مستجابًا وأنت في بلدك ، فكيف بالدعاء وأنت في بيته ؟! فإذا طلبت من إنسان وأنت في ضيافته حاجة ، أعتقد اعتقاداً جازماً أن إمكان تلبيتها مائةٌ في المائة ، فأنت في بيته ، وفي إكرامه وضيافته... لذلك فالإحساس بأنك ضيف الله عزَّ وجل ، ضيف الرحمن ، هذا الإحساس أكثر من رائع ، وتستطيع أن تحسَّ به وأنت هناك في بيت الله الحرام .
وثمّة شيء آخر :أنك إذا ذهبت إلى هناك لا ينبغي أن تشعر أنك قد حجَجْتَ البيت ،
لا ، بل ينبغي أن تشعر أن الله عزَّ وجل سمح لك أن تزور بيته ، وشرَّفك وتفضَّل عليك بأن أعانك على زيارة بيته !!!
وهذا الشعور يجب أن يكون واضحاً عند الحاج ، لأنك إذا قلت : يا رب لقد شرَّفتني بزيارة بيتك الحرام ، وهذا كرم منك ،إعترفتَ لصاحب الجَميل والفضل بجميله وفَضله عليك !!!
فلذلك هذه الأحوال التي يعانيها الحاج لا أقول لكم : إن قلةً قليلةً يعانيها ، لا والله كل حاج ، لأنّ رحمة الله وفضله يسع كل عباده، بشرط واحد أن يكون الانطلاق إلى الحج بإخلاص ، لا تبتغي لا سمعةً ولا رياءً ، ولا زينةً ولا وجاهةً ، ولا تجارةً ولا عملاً ، ولا إقامةً ولا ولا ...فإذا كان الهدف خالصاً لوجه الله عزَّ وجل ، فهو سبحانه وتعالى يتكفَّلُ أن يُكرمك إكراماً لا تنساه مدى الحياة .
فأنت إذا طُفْتَ حول الكعبة ، تدعو الله عزَّ وجل : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار " .
ماذا بقي بعد ذلك ؟
في الدنيا حسنةً و في الآخرة حسنةً !!!
هذا الدُعاء الذي أُثِرَ عن النبي عليه الصلاة والسلام ادعُ به : " اللهم إنك عفوٌ كريم تحب العفو فاعفُ عني يا كريم " .
هو يحب أن يعفو عنك ، وها أنت ذا تطلب منه العفو ، إذن لا بدَّ أن تشعر بالعفو وكما قلنا قبل قليل : فُتحَت لك مع الله صفحةٌ جديدة.
فإذا قلت : " اللهم أصلِح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " .
وإذا قلت : " واجعل الحياة زيادة لي من كل خير "
فما دامت الحياة فيها زيادةٌ لي من الخير فأحيني يا رب ..
" واجعل الموت راحةً لي من كل شر " .
تشعر أن حياتك خير ، وأن انتهاء الحياة خير ، فهذه الأدعية في بيت الله الحرام أو عند النبي صلى الله عليه وسلم تحس أن لها وَهْجًا ، لأنك لو دعوت بها آلاف المَّرات وأنت في بلدك لا تذوق طعمها ، إلا إذا دعوتَ بها وأنت في بيته ، وأنت في ضيافته ، وأنت متعرضٌ لكرمه... فإذا وصلت إلى الحجر الأسود ، والنبي عليه الصلاة والسلام قّبَّلَ الحجر الأسود وبكى كثيراً ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَرَ ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلا ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي فَقَالَ : يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ " * ( سنن ابن ماجة )
لذلك أجمع أهل العلم على أن الحجر الأسود يمينُ الله في أرضه ،
ولذلك عند تقبيله تدعوا وتقول : " بسم الله ، الله أكبر ، اللهم إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، و اتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، و وفاءاً بعهدك،وعهداً على طاعتك "
لكن أيها الإخوة الأكارم ؛ أتمنى أن كل من أتيح له أن يقبِّل الحجر الأسود أن لا ينسى هذا التقبيل طوال حياته ، كلما شعر بالتقصير تذكَّر أنّه قبَّل الحجر الأسود ، وعاهد الله عزَّ وجل على طاعته ،
فهل أنت في مستوى هذه الطاعة؟
وهل أنت ذاكرٌ لهذا العهد ؟
وبعد الطواف تتوجه إلى صلاة ركعتين في مقام سيدنا إبراهيم ، وأكثر الحجَّاج يصرون على أن يصلُّوا خلف المقام ، وفي أيام الطواف الشديد يصبح هذا المصلي عقبةً كَؤودًا أمام الطائفين ، مع أن العلماء أجمعوا على أن أي مكانٍ في الحرم المكي الشريف صالحٌ لصلاة ركعتين بعد الطواف ، فهناك أشخاص يضعون حواجز من أجل أن يصلي بعضهم في هذا المقام في ازدحام وتعسر ، فهذا الذي يذهب إلى هناك من دون فقه يؤذي المسلمين كثيراً...
فمن أجل أن يفعل سنة يرتكب معصيةٌ كبيرة ، أهكذا الحج ؟
ومن أجل أن تُقَبِّل الحجر تؤذي عشرات المسلمين ؟!!
أبهذا أمرك النبي عليه الصلاة والسلام ؟
فلذلك : " تفقهوا قبل أن تحجوا " .
فالحج أيها الإخوة الكرام يحتاج إلى إعدادين ؛ إعداد فقهي ، وإعداد نفسي :
فالإعدادالفقهي أن تدرُسَ أحكام الحج الكُبْرَى والفرعية ، إلى أن تصل إلى دقائق الأعمال لأنك هناك قد تواجه مشكلة ، ما حكمها ، أعليها دم ؟ أهي سنةٌ أم هي واجبٌ ؟ هل عليَّ شيءٌ ؟ أم لا شيء عليَّ ؟ هذا الأمرُ ينبغي أن يكون واضحاً عند كل أخ ، فلا بدَّ من أن يتلقَّى دروساً مكثفةٌ في أحكام الحج ، وأركانه ، وواجباته ، وسننه ، ومستحبَّاته ، وآدابه ، وحكمته ، من أجل أن تكون هذه المعلومات زاداً للأخ الذي يحجُّ البيت.
أما الإعدادالنَّفسي: فأنْ تكون قد أَنَبْتَ إلى الله إنابةً صحيحة ، وتبتَ إليه من كل الذنوب ، فتوبتك واستقامتك ، وعملك الطيِّب وإنفاق المالَ الحلالَ هو الإعدادُ النفسي للحج ، لذلك قال الله عزَّ وجل في الحديث القدسي : " إذا أصحَحْت لعبدي جسمه ، ووسعت عليه في المعيشة ، فأتت عليه خمسة أعوام لم يَفِد إليَّ لمحروم " .
وبعد الصلاة في مقام إبراهيم أوفي أي مكان متيسر لك بالحرم تتوجَّهُ إلى المسعى، وكما قال النبي عليه الصلاة و السلام : " بسم الله الرحمن الرحيم نبدأ بما بدأ الله به " .. تتلوا قوله تعالى في سورة البقرة :
وأيضاً في الطواف دعاء ، فالله عزَّ وجل أعطاك أماكن ، وحركات يجب أن يرافقها الدعاء ، فهل تستطيع الدعاء بدون كتيبات؟! لذلك إذا أزمع الإنسانُ الحجَّ فأنا أنصح له أن يكثر من حفظ الأدعية ، لأنك لو فتحت الكتاب هكذا فإنّ رونق الدعاء يتلاشى ، وروحانية الإقبال على الله تذهب ، وهناك أشخاص يفتحون الكتاب ويرفعون أصواتهم بالدعاء إلى درجة أنهم يشوِّشون على كل من يسعى ويطوف ، وهناك من يرفع صوته ليرُدَّ النساء خلفه ، وصوت المرأة عورة لذلك تفقَّهوا قبل أن تحُجّوا ، فيجب أن تدعو من ذاكرتك ، فإذن أعدَّ الإنسانُ نفسَه قبل الحج بشهرين أو ثلاثة ، وجمع الأدعية كلها ، وحفظها إلى درجة أنه أصبح يدعو بها من ذاكرته وقلبه فعندئذٍ يستطيع أن يلتفت إلى الله ، أما إذا فتح الكتاب وفُتِحت ورقة معه بالخطأ فغيَّر ، فإنّ هذا الحال الطيب الذي يظن أنه سيصل إليه قد يتفلَّت منه . ثم إن الدعاء إذا تعلمتَه أو أمسكت بهذا المفتاح السحري ، فإنّه أكبر سلاح ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " الدُّعاء سلاح المؤمن " .
لأنك بالدعاء تنتصر على أقوى مخلوق ، لأن الله معك ، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة : "يا أبا بكر ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما ؟ " ما قولك ؟ وما ظنك بإنسان الله سبحانه وتعالى معه ؟ فإذا دعوتَ الله في الحج ينبغي أن يصبح الدعاء رفيقاً لك في بلدك ، كلما واجهتك مشكلة ، أو ألمَّت بك مُلِمَّة أو شعرت بالضيق ، أو لاح لك شبحُ مصيبة ، أو أخافك إنسان ، أو أوقعك القلقُ في شعورٍ وحزن ، في هذه الحالات ادعُ الله عزَّ وجل
( سورة غافر : من آية " 60 " )
لا تَسألَنَّ بُنَيَّ آدم حاجـــةً
وسَلِ الذي أبوابُه لا تُحجَبُ
اللهُ يغضب إن ترَكْتَ سؤالهُ
وبُنَيَّ آدم حين يُسألُ يغضب
إنَّ العبدَ إنْ سألته يغضَب، أما الله عزَّ وجل فيغضب إن تركت سؤالَه !!!!
ولعلك تلاحظ أن الله تعالى قد أضاف البيت الحرام إلى ذاته فقال عنه في سورة البقرة: (بَيتي): " أنْ طهِّرا بَيتيَ للطائفين والعاكفينَ والرُّكَّعِ السُّجود"
لاحظ أن الكعبة المُشَرَّفة أضيفت في الآية السابقة إلى الله عزَّ وجل ،وهذا تشريف لها ، فهي أقدس مكانٍ على وجه الأرض ، والصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، وهذا الشيءُ - سبحان الله - ملموسٌ لأنّ الإنسان أحياناً حتى يشعر بالقرب من الله تعالى يحتاج إلى بذل جهد كبير ،
وهناك في بيت الله الحرام بجهدٍ بسيط يشعر بهذا القرب!!!
فلا أريد أن أطيل عليكم ، فمن ذاق عرف ، ومن سار على الدرب وصل ، ومن توجَّه إلى بيت الله الحرام بنية خالصة ، فلا بدَّ أن يعود وقد امتلأ قلبه محبةً لله عزَّ وجل .
وشيء آخر أنّ الله عزَّ وجل في عرفات يُباهي الملائكَةَ ، فيقول : "انظروا عبادي ، جاءوني شُعثاً غُبراً ، فاشهدوا أني قد غفرت لهم " ، فلا ينبغي في عرفات أن يكون الحاج في حالة غفلةٍ ،
لأن هذا اليوم كما قال عليه الصلاة والسلام: " أشرَف يومٍ في السنة " .
فأشرف الشهور رمضان، وأعظم أيام الأسبوع يوم الجمعة، ورمضان أشرف أشهر السنة، وأشرف أيام السنة يوم عرفات، إذن عرفات موعد اللقاء الأكبر مع الله عزَّ وجل في الدنيا.
( سورة البقرة)
أي كما هداكم إليه ، فهذه المناسك المتنوعة ؛ من طوافٍ ، إلى سعيٍ ، إلى صلاةٍ إلى وقوفٍ في عرفة ، إلى وقوفٍ في مزدلفة ، إلى رمي الجمار ، هذه المواقف المتعددة جعلها الله عزَّ وجل مناسبةً كي تقبل عليه منها ، وقد سألني أخ كريم فقال لي :" والله أنا لمَّا حججت لم يستقِم الرميُ معي ، بعض الحصَيات وصلَت ، وبعضها لم يصِل ، بعضُها كبير ، وبعضُها صغير ، يا ترى يصح رجمي ؟ سبحان الله ، خطر ببالي هذا الخاطر فقلت له : لو اخترت حصَيات في وزنٍ واحد ، وكان الوزن مناسباً ، ووقفت أمام مكان الرمي ، ورميت وفق الأصول الشرعية مائةً في المائة ، وأصبت المرمى إصابةً صحيحة ، وعدتَ إلى بلدك ، وعصيت الله عزَّ وجل ، فإن الشيطان هو المنتصر ، فمهما أتقَنتَ رمي الجمرات وعصيت الله عزَّ وجل فالشيطان هو المنتصِر ،
فإذا أطعتَ الله عزَّ وجل بعد الحج ، فأنت المنتصر ،
لذلك قال الإمام الغزالي : " لا يحصل إرغام أنف الشيطان إلا بطاعة الله " .
فأنت مِن الآن إذا أردت أن تُرغِم أنفَه من دون أن ترجمه فأطِع الله عزَّ وجل وأنت في بلدك ، وانتهى الأمر ، طاعتك لله عزَّ وجل وأنت في بلدك إرغامٌ لأنف الشيطان ، عليه لعنة الله .
شيءٌ آخر ، أن الإنسان حينما يرجم الشيطان يشعر أن هذه المعرفة التي حَصَلَت له تقتضي معاداة الشيطان ، وهذه المعرفة التي حصلت له من لوازمها الحقيقية أن تعاديَ الشيطان ، وأن تبعدهُ عنك ، وعن خواطرك ، وسلوكك ، وعاداتك ، وعن كل أعمالك اليومية ولا أملك إلا أن أقول لكم : من ذهب إلى بيت الله الحرام مخلصاً بهذا الذهاب ، ومن أحرم من الميقات ، وضبط نفسه ..
( سورة البقرة)
ومن سعى وطاف وصلى ووقف و رمى ، وأقام بمِنى ، فهذه المشاعر لا بدَّ أن تكون بالنسبة إليه معالم الهُدَى التي ينتظرها من الله عزَّ وجل ، وبعد الحج إذا توجَّهَ إلى الحرم النبوي الشريف ، فالمشاعر هناك من نوعٍ آخر، حيث يتذكر الحبيب صلى الله عليه وسلم وصحابته الكِرام ، ويزور قبره ويسلم ، ثم يغنم دعاءً مستجاباً بعد السلام عليه
( بشرط أن يدعو وهو متوجِّه للقِبلة) ، ثم ينعَم بالصلاة والدعاء في الروضة الشريفة التي تعد روضة من رياض الجنة !!!
رزقكم الله تعالى أداء الحج كما يحب ويرضى وأعانكم على ذِكره وشُكره وحُسن عبادته ، وبارك لكم في زيارتكم للمدينة المنورة ،وتقبل توبتكم ودعائكم وصلاتكم وسعيكم وإنفاقكم في سبيله ، وغفر لكم ذنوبكم ؛ وأعادكم من هذه الرحلة المباركة وقد أُعتقت رقابكم من النار، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه .
======
هذه المحاضرات تجدونها مسموعة ومكتوبة
بقسم :
الفقه الإسلامي- أحكام تفصيلية في الفقه - خبرات في الحج
على موقع فضيلة الشيخ / د.محمد راتب النابلسي
http://www.nabulsi.com/
الروابط المفضلة