لو أنّ طبيباً مشهوداً له ، قال لإنسان يتردد على عيادته :
اسمعها مني صريحة ناصحة ، لا أراك ستعيش أكثر من شهرين ، فاحتــط لنفسك ، وتهيأ بما تستطيع ، فلا فائدة تُرجى لك من طب الناس تحت أي سماء ..! هذه وصيتي لك ، وشفقتي عليك ، وأنت وشأنك ..!

أما أنا فأحسب أنّ هذا الإنسان سيتحطم كلياً ، وسيموت كل جزء فيه على حدة ، كأنه جدار كان يتماسك في جهد ، فلما تعرض لهزة عارضة ، إذا بأحجاره كلها تتتابع إلى القاع ..! ثم إني أحسب أنّ انقلاباً هائلاً سيحدث في حياة هذا الإنسان ، يجعله ينتقل من النقيض إلى النقيض بين يوم وليلة..

ولقد قرأت منذ زمن ، قصة رجل ثري ، حدث له مثل هذا الذي نقوله ، ولكن النهاية كانت هي الأعجب ..
لقد أصيب بمرض عضال ، وتردد على مشافي كثيرة في بلدان مختلفة ، من بلاد العالم، وفي كل مرة لا يرى فائدة تُذكر ، بل إنه يحس أن الأمر يستفحل مع الأيام ، ويحدث أن يقال له بملء الفم : بحسابات الطب التي نملكها ، فإنه لا أمل في شفائك، ولقد أصبحت أيامك في دنيا الناس معدودة ، لا تتعدى الشهرين أو الثلاثة ،
فبقاؤك بين أهلك وأحبائك خير لك ..

وجحظت عينا الرجل ، وارتعشت كل خلية فيه ، وانتصبت كل شعرة في جسده تنتفض مذعورة ، ولما أيقن بما أخبروه ، عاد إلى بلده منهاراً محطماً ، يحمل نفسه في جهد، وفي رأسه تثور عشرات الآلاف من الخواطر والأفكار والأسئلة، ولأن الأمر جدّ ولا مجال فيه للمزاح ، فقد بقي يخبط يداً بيد ، ويضرب أخماساً في أسداس ،ثم لمعت في رأسه فكرة ، فرح لها كل الفرح ، وما إن وضع عصى الترحال في بيته ، حتى بادر يستدعي محاميه الخاص إلى مكتبه ، وأغلق في إحكام الباب من ورائه ، ثم شرع يملي عليه وصيته العجيبة الغريبة :

تبرعات سخية لأطفال أفريقيا ، ومثلها لأطفال فلسطين ، ومشاريع خيرية في هذا البلد وذاك ،وصدقات ، وزكوات ، وملايين يذكرها ويوزعها ، والمحامي يكتب في ذهول وعجب ودهشة ، وكلما حاول أن يتكلم ، زجره صاحبه قائلاً :

لقد أيقنت أنني مودّع هذه الدنيا ، وأريد أن أغتسل من ذنوبي وما أكثرها .. ثم شرع يقسّم بقية ميراثه على ورثته ..! كل ذلك على الورق ، ولذا طلب من محاميه أن لا ينفذ شيئاً من هذا إلاّ بعد موته ..

ومن يومها انقلبت حياة الرجل رأساً على عقب، لم تعرف رجلاه ، منذ ذلك اليوم ، سوى الطريق إلى المسجد، والانشغال فقط بالعبادة بكافة أنواعها ، حتى كلامه ، أصبح معدوداً محسوباً موزوناً ، لا يدور لسانه إلاّ بذكر أو تذكير أو نصح أو إرشاد ووعظ ونحو ذلك ..

وكلما حاول أهله وذووه أن يثنوه ، ازداد إصراراً ، ومع إصراره ازداد شحوباً ..وتمضي الأيام والرجل يكاد يكون من العُبّاد القلائل في مدينته ، كان أول الداخلين إلى المسجد ، وآخر الخارجين منه ، كثير الاعتكاف ، غزير الدمعة .. ومع كل يوم يموت بعضه ، ومع نهاية كل ليلة ، يكون قد انتصب فزعاً في جوف الظلام يبكي وينوح على نفسه ..

ويمرّ الشهر ووراءه الشهر ، وفي الشهر الثالث يتضح لك أن الرجل قد أصبح من أبناء الآخرة .!! ولما انقضى الشهر بكله ، ثم تتابعت أيام من الشهر التالي ، ورأى أنه لا يزال في كامل عافيته ، برقت عيناه ، وانعقد لسانه ، وفغر فاه ، وأشرق أمل جديد في صدره ، وظل يترقب الأيام الجديدة ، ومضت أسابيع ، فإذا هو يصيح لاعناً الطب والأطباء ، وسارع يخلع ثياب الزهد والعبادة ، ودعا صحبته القديمة _ التي كان قد طلّقها _وقبل ذلك كان قد دعا محاميه ، ومزّق تلك الوصية وهو يقهقه ساخراً ولاعناً ..

وقرر أن يعوّض كل تلك الأيام بسهرة لم يسهر مثلها إنسان ..! واجتمع لفيف من صعاليك الأرض ، ليس لهم همّ إلاّ بطونهم وشهواتهم ، وكانت ليلة أشبه ما تكون بليالي ألف ليلة وليلة المسطرة في الكتب .. وعلى المائدة الكبيرة ، ووسط روائح الخمور وعطور الغانيات و..و..

يُقبل الرجل يأكل بشراهة وفي نهم ، غير أنه لم يكد يمضغ لقيمات حتى خرّ صريعاً ميتاً وسط هذه الزينات ، وهذا الصخب والضجيج ..!

يا لله …. ! ماذا تفعل الحماقة بأصحابها ...!

لقد كان - فيما يبدو - على باب الجنة ليس بينه وبينها إلاّ ساعات ، ولكن الشقاوة أبت عليه إلاّ أن ينحرف عن الطريق عند آخر محطة ...! نسأل الله العفو والعافية لنا ولجميع المسلمين والمسلمات ..

والفكرة التي امتلأت بها نفسي من هذه القصة كلها هي :

كيف أنّ هذا الرجل ، قد انقلبت حياته كلها ، حين أخبره طبيب( مخلوق ) بأنه على وشك أن يموت .. ونحن يُخبرنا الخالق عز وجل في محكم آياته ، أننا على وشك أن نغادر هذه الحياة الدنيا ، في أية لحظة ، ثم نحن لا نتأثر أبداً .!؟

أتُرانا لا نؤمن بالله وبما أنزل من كتاب _ وإن كنا ندّعي ذلك. أم أنها مجرد غفلة بلغت بنا حد الحماقة .؟

_________

من موقع القلعة للكاتب بو عبد الرحمن.


------------------
(اللهم آتنا في الدنياحسنة وفي الآخرة حسنة وقناعذاب النار)