الرقص فوق الجراح
قال الراوي وهو يكاد
يتميز غيظاً :

إذا شبّت النار في ثيابك فجأة ،
فليس من العقل في شيء ، ولا من المنطق ، أن تبقى ناظراً إليها في بلاهة ،
ثم لا تلبث أن ترفع صوتك بالغناء ،
وتواصل الرقص على إيقاع قدميك ..!!

تلك حماقة لا يفعلها حتى المجانين ،
غير أن شعوباً كثيرة - للأسف - في عصرنا الذي نعيش فيه ،
تفعل هذا بعينه :
شبّت النار في الديار ، وأخذت تلتهم الأخضر واليابس ،
ولا تزال تواصل زحفها المخيف ،
وهؤلاء
( تحسبهم أيقاظاً وهم رقود)
ما زالوا في دوائر اللهو يتقلبون ، ومع آهات الرقص والمجون يصبحون ويمسون
وكأن النار ما شبت إلا في القمر لا في الديار !!
قال كليلة الجديد ، لدمنة المعاصرة :استمعي إليّ جيداً ،
فهذه حكاية ولا كل الحكايات ، وجدير بك أن تتأملها ،
وهي من المضحكات المبكيات التي تهز القلب وتحز الفؤاد :
في ناحية من نواحي الغابة المترامية ،
قبع الدب ذات ليلة يتلهى بمشاهدة ( التلفاز )
لم ينتبه إلى أن حريقاً هائلاً قد شب في الغابة ، وأن النار تسري في قوة
وتحطم في طريقها كل شيء ،
غير أن التلفاز أراد أن يتولى عملية تنبه الغافلين
فأخذ يعرض مشاهد حية لما يحدث ،
وتركزت الشاشة على عشرات الجثث المتفحمة ،
وأعداد من الجرحى لا يحصيهم إلا الله ،
وسيول الدماء تتدفق كأنها الأنهار ،
وحطام في كل مكان ،
مناظر مهولة تذكرك بأهوال يوم القيامة ،
يقايا وسائل نقل قد تحطمت بشكل مثير للفزع ،
أشبال صغار يهيمون على وجوههم في حالة فزع مروع ،
السماء تغطت تماماً بالدخان الأسود وبدت كأنما هي تبكي في حرقة ،
دمار شامل تقشعر له الجلود ،
والنار لا تزال تواصل زحفها ،
وصوت المذيع الباكي الحزين المتهدج يفتت القلب ،

ومن ثم لم يملك الدب إلا أن يبكي في حرقة ،
ويلطم خده في حسرة ..
ثم غطى وجهه بكلتي يديه ،
وارتفع عويله ... وناح على نفسه ..!!

سكت كليلة قليلاً ليسترد أنفاسه ،
غير أن دمنة صاحت به في هياج وانفعال ولهفة : وماذا بعد ؟
ماذا جرى للغابة ومن فيها؟
وكيف تصرف الدب المسكين ..؟
أظنه لن يبقى ساكتاً ساكناً خاملاً ،
أحسبه سيعمل على أن ينقذ ما يمكن إنقاذه ..

ابتسم كليلة ثم قال بصوت حزين :
بعد هنيهة فقط رفع الدب عينيه ،
فرأى في ذات القناة التلفازية التي كانت تنقل تلك الأهوال ..
رأى مشهداً عجيباً ومثيرا :
ببغاء جميل يتراقص ويغني ويتلوى ،
ويقفز وينط ، ويصيح ، ويعوي ،
ويتغزل في ليلاه ،
ويغمز ويلمز ويهمس ،
وأمامه مجموعة من الفراشات الفاتنات المثيرات
يتراقصن على الإيقاع
ويتغامزن ويتخلعن ويتأوهن ويتلوين بشكل مثير ، مثير جداً ..!!


حملقت عينا الدب في ذهول .. شيء لا يصدقه عقل ..
وفرك عينيه بقوة غير مصدق ما يرى ،
ولم يلبث إلا قليلا حتى ظهر المذيع نفسه باسماً منتشياً
ليقدم ببغاء آخر في وصلة راقصة مع مجموعة من الفراشات الفاتنات
الباهرات الجمال من اللواتي لا يكاد يسترهن شيء !
وأخذ المذيع المتهلل الوجه ، يتمنى للمشاهدين سهرة حلوة .. !
نفض الدب رأسه مرات متوالية ،
غير أنه ما لبث أن وجد نفسه دون أن يشعر وقد .....وقد
وجد نفسه وقد تحلبت شفتاه ، وبرقت عيناه ،
وسارع يمسح دموعه التي لم تجف بعد ،
وأخذ يفرك يديه ،
ثم قفز عالياً في الهواء
واكتشف فجأة أنه ... أنه .. أنه يجيد الرقص هو الآخر ..!
فإذا هو يرقص على واحدة ونص ..!

ويصيح في بلاهة : رقصني يا جدع !!
وعيناه تتابعان في شبق سهرة المساء الساخنة .. !
يحملق في الأجساد المشبوبة كأنها النار ..!!
الغابة ما تزال تأكلها النيران في جنون ،
والدب المخبول الآن يجهد نفسه مع أهله وأقربائه وجيرانه جميعاً
حتى استطاع أن يقنعهم أن يشاركوه الرقص والغناء
والاستمتاع بالسهرة المثيرة ،
وهم مع ذلك يتمنون
الأماني المعسولة للغابة التي تحترق .. ..!!


لوت دمنة شفتها السفلى وقد تجهم وجهها ، ثم صاحت في غيظ :
تباً لكل المخدرات ..!!
ألف ، ألف ، ألف تب .. لكل
المخدرات ..!
!!!
* * * *