بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم
اهديكم جزء من كتاب الرقاق في صحيح البخاري مع الاختصار

كتاب الرقاق.
(الرقاق) جمع رقيق، من الرقَّة وهي الرحمة، سمي بذلك لأن كل حديث فيه يحدث في القلب رقَّة].

باب: ما جاء في الصحة والفراغ، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
[ش (نعمتان) تثنية نعمة، وهي الحالة الحسنة، وقيل: هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى غيره. (مغبون) من الغبن وهو النقص، وقيل: الغبن وهو ضعف الرأي. (الصحة) في الأبدان. (الفراغ) عدم ما يشغله من الأمور الدنيوية].
عن أنس

باب: مثل الدنيا في الآخرة.
وقوله تعالى: {أنَّما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} /الحديد: 20/.
عن سهل قال:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها).
[ش (موضع سوط) قدر موضعه، والسوط ما يضرب به من جلد ونحوه].

باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
[ش (كأنك غريب) بعيد عن موطنه، لا يتخذ الدار التي هو فيها موطناً، ولا يحدث نفسه بالبقاء، قال العيني: هذه كلمة جامعة لأنواع النصائح، إذ الغريب، لقلة معرفته بالناس، قليل الحسد والعداوة والحقد والنفاق والنزاع، وسائر الرذائل منشؤها الاختلاط بالخلائق، ولقلة إقامته، قليل الدار والبستان والمزرعة والأهل والعيال وسائر العلائق، التي هي منشأ الاشتغال عن الخالق. (عابر سبيل) مار بطريق، وتعلقاته أقل من تعلقات الغريب.
(خذ من صحتك لمرضك) اشتغل حال الصحة بالطاعات، بقدر يسد الخلل والنقص الحاصل بسبب المرض، الذي قد يقعد عنها. (من حياتك لموتك) اغتنم أيام حياتك بالأعمال التي تنفعك عند الله تعالى بعد موتك].

باب: في الأمل وطوله.
وقول الله تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغُرور} /آل عمران: 185/.
وقوله: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} /الحجر: 3/.
وقال علي بن أبي طالب: ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
{بمزحزحه} /البقرة: 96/: بمباعده.
عن عبد الله رضي الله عنه قال:
خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أو: قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا).
[ش (مربعاً) شكلاً ذا أضلاع أربع متساوي الزوايا. (خارجاً منه) ممتداً إلى خارجه. (الأعراض) الآفات التي تعرض له من مرض وشغل، وآخرها الموت. (أخطأه) لم يصبه. (نهشه) أصابه، والنهش أخذ الشيء بمقدم الأسنان].
عن أنس قال:

باب: من بلغ ستين سنة، فقد أعذر الله إليه في العمر.
لقوله: {أولم نعمِّركم ما يتذكَّر فيه من تذكَّر وجاءكم النَّذير} /فاطر: 37/: يعني الشيب.
[ش (أعذر إليه) أزال عذره ولم تبق له حجة في التقصير. (نعمركم) أعطيناكم من البقاء في الدنيا. (ما يتذكر فيه..) ما هو كاف في التذكير لمن لديه استعداد لذلك. (النذير) ما ينذر بدنو الأجل، ولذا فسر بالشيب. أو: من يُحَذَّر من عقاب الآخرة وهم الرسل وما أنزل عليهم من كتب].
عن أبي هريرة،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجله حتى بلَّغه ستين سنة).
[ش (أعذر) من الإعذار وهو إزالة العذر. (أخر أجله) أطال حياته].
أن أبا هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل).
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حبُّ المال وطول العمر).
(يكبر) يطعن في السن. (يكبر معه) يعظم عنده].

باب: العمل الذي يبتغي به وجه الله.
عن عتبان بن مالك الأنصاري، ثم أحد بني سالم، قال:
غدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (لن يوافي عبد يوم القيامة، يقول: لا إله إلا الله، يبتغي بها وجه الله، إلا حرم الله عليه النار).
عن أبي هريرة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء، إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة).
[ش (قبضت صفيه) أخذت حبيبه المصافي له - كالولد والأخ وكل من يحبه الإنسان ويتعلق به - بالموت. (احتسبه) صبر على فقده وطلب الأجر من الله تعالى وحده].

باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها.
عن عمرو بن عوف، وهو حليف لبني عامر بن لؤي، كان شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمَّر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدومه، فوافقت صلاة الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: (أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة، وأنه جاء بشيء). قالوا: أجل يا رسول الله، قال: (فأبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيكم كما ألهتهم).
عن عقبة بن عامر:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً، فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر، فقال: (إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض). قيل: وما بركات الأرض؟ قال: (زهرة الدنيا). فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أنه ينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، فقال: (أين السائل). قال: أنا. قال أبو سعيد: لقد حمدناه حين طلع لذلك. قال: (لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت الربيع يقتل حبطاً أو يُلِمُّ، إلا آكلة الخضر، أكلت حتى إذا امتدَّت خاصرتاها، استقبلت الشمس، فاجْتَرَّت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت. وإن هذا المال حلوة، من أخذه بحَقِّه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع).
(حمدناه حين طلع ذلك) حمدنا الرجل حين ظهر هكذا، لأن سؤاله صار سبباً لاستفادتنا منه صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة (اطلع لذلك). (الخضر) وفي بعض النسخ (الخضرة). (يفون) وفي بعض النسخ (يوفون)].
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فما أدري: قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله مرتين أو ثلاثاً - ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السِّمَن).
عن عبد الله رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء من بعدهم قوم: تسبق شهادتهم أيمانهم، وأيمانهم شهادتهم).
عن قيس قال:

باب: قول الله تعالى: {يا أيها الناس إنَّ وعد الله حق فلا تغرَّنكم الحياة الدنيا ولا يغرَّنكم بالله الغَرور. إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} /فاطر: 5 - 6/.
عن ابن أبان قال:
أتيت عثمان بن عفان بطهور وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء ثم قال: (من توضأ مثل هذا الوضوء، ثم أتى المسجد، فركع ركعتين، ثم جلس، غفر له ما تقدم من ذنبه). قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تغترُّوا).
[ش (بطهور) الماء الذي يتطهر به. (المقاعد) موضع بالمدينة. (لا تغترُّوا) أي بهذه المغفرة وتعتمدوا عليها فتجسروا على الذنوب].

باب: ذهاب الصالحين.
عن مرداس الأسلمي قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يذهب الصالحون، الأول فالأول، ويبقى حفالة كحفالة الشعير، أو التمر، لا يباليهم الله بالة).
قال أبو عبد الله: يقال حفالة وحثالة.

باب: ما يتقى من فتنة المال.
وقول الله تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} /التغابن: 15/.
[ش (فتنة) سبب للوقوع في الفتنة، وهي الميل عن الحق، أو المحنة والابتلاء. وأصل الفتنة من قولك: فتنت الذهب والفضة، إذا أحرقته بالنار ليبين الجيد من الرديء].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض).
عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول:
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).

باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا المال خضرة حلوة).
وقال الله تعالى: {زُيِّنَ للناس حُبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذَّهب والفضَّة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} /آل عمران: 14/.
قال عمر: اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه.
[ش (زُيِّن للناس) حُسِّنِ ورُغِّبَ لنفوسهم في هذه الدنيا. (الشهوات) أنواع الملذات والمتع. (القناطير المقنطرة) كناية عن المقادير الكبيرة المكدسة.
(المسوَّمة) المعلَّمة. (الأنعام) الإبل والبقر والغنم. (الحرث) الأراضي المتخذة للزراعة. (متاع) ما ينتفع به في الدنيا لأمد قليل. (قال عمر) أي عند سماع الآية. (بما زينته لنا) مما ذكر في الآية. (حقه) طرقه المشروعة].
عن حكيم بن حزام قال:
سألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: (هذا المال). وربما قال سفيان: قال لي: (يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى).

باب: ما قدم من ماله فهو له.
قال عبد الله:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله). قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: (فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر).
[ش (أحب إليه) أكثر حرصاً عليه. (ما قدم) صرفه في حياته في مصارف الخير. (ما أخر) ما ادخره حتى مات وتركه لوارثه].

باب: المكثرون هم المقلون.
وقوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوَفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} /هود: 15 - 16/.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال:
خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، وليس معه إنسان، قال: فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد، قال: فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: (من هذا). قلت: أبو ذر، جعلني الله فداءك، قال: (يا أبا ذر تعال). قال: فمشيت معه ساعة، فقال: (إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً). قال: فمشيت معه ساعة، فقال لي: (اجلس ها هنا). قال: فأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي: (اجلس ها هنا حتى أرجع إليك). قال: فانطلق في الحرة حتى لا أراه، فلبث عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول: (وإن سرق، وإن زنى). قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت: يا نبي الله جعلني الله فداءك، من تكلم في جانب الحرة، ما سمعت أحداً يرجع إليك شيئا؟ قال: (ذلك جبريل عليه السلام، عرض لي في جانب الحرة، قال: بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: يا جبريل، وإن سرق، وإن زنى؟ قال: نعم). قال: قلت: وإن سرق، وإن زنى؟ قال: (نعم، وإن شرب الخمر).

باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً).
قال أبو هريرة رضي الله عنه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان لي مثل أحد ذهباً، لسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء، إلا شيئاً أرصده لدين).
[ش (أرصده لدين) أحفظه وأعده لوفاء دين مستحق علي].

باب: الغنى غنى النفس.
وقال الله تعالى: {أيحسبون أن ما نُمِدُّهم به من مال وبنين - إلى قوله تعالى - هم لها عاملون} /المؤمنون: 55 - 63 /.
قال ابن عيينة: لم يعملوها، لا بد من أن يعملوها.
[ش (نمدهم) نعطيهم ونقويهم به. (إلى قوله) وتتمة الآيات: {نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون. إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون. ولا نكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يُظلمون. بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك}. (خشية) هي الخوف مع تعظيم المخوَّف منه. (مشفقون) خائفون. (يؤتون) يعطون ويقدمون من الطاعات والخيرات. (وجلة) خائفة أن لا يقبل منهم. (أنهم..) لأنهم موقنون باليوم الآخر والرجوع فيه إلى الله عز وجل الذي سيحاسب الناس على كل كبير وصغير. (لها) إليها. (وسعها) طاقتها. (ينطق بالحق) يشهد عليهم بما عملوه دون زيادة أو نقص. (قلوبهم) قلوب الكفار والعصاة. (غمرة من هذا) غفلة عن الإيمان بالقرآن والعمل بما فيه. (أعمال) سيئة. (من دون ذلك) هي دون الشرك بالله تعالى. (هم لها عاملون) هي في نفوسهم وستظهر إلى الوجود].
عن أبي هريرة،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنَّ الغنى غنى النفس).
(الغنى) الحقيقي الذي يملأ نفس الإنسان، ويكفه عن حاجة غيره. (كثرة العرض) حطام الدنيا من الأمتعة ونحوها، أو ما يصيبه الإنسان من حظوظ الدنيا].

باب: فضل الفقر.
عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال:
مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: (ما رأيك في هذا). فقال: (رجل من أشراف الناس، هذا والله حريُّ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشَفَّع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيك في هذا). فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريُّ إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يُشَفَّع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا).
[ش (أشراف الناس) وجهائهم وأغنيائهم. (حريُّ) جدير ولائق. (لا يُشَفَّع) لا يُلْتَفت إليه. وقيل المار الثاني جعيد بن سراقة الغفاري].
عن أبا وائل قال: عدنا خباباً فقال:
هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك نمرة، فإذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه ونجعل على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها.
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطَّلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطَّلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء).
عن أنس رضي الله عنه قال:
لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات.
[ش (خوان) ما يؤكل عليه الطعام. والأكل عليه دليل التمكن من الأكل والامتلاء من الطعام].
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
لقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما في رفِّي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رفٍّ لي، فأكلت منه، حتى طال علي، فكلته ففني.
[ر:2930]
[ش (رفي) الرف خشبة عريضة يغرز طرفاها في الجدار. (شطر شعير) بعض شعير].


باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم من الدنيا.
[ش (وتخليهم من الدنيا) وفي بعض النسخ (وتخليهم عن الدنيا)].
عن أبي هريرة كان يقول:
آلله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: (يا أبا هر). قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (الحق). ومضى فاتَّبعته، فدخل، فأستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: (من أين هذا اللبن). قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: (أبا هر). قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي). قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: (يا أبا هر). قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (خذ فأعطهم). قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليَّ فتبسم، فقال: ( أبا هر). قلت: لبيك يا رسول الله، قال: (بقيت أنا وأنت). قلت: صدقت يا رسول الله، قال: (اقعد فاشرب). فقعدت فشربت، فقال: (اشرب). فشربت، فما زال يقول: (اشرب). حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكاً، قال: (فأرني). فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.
[ش (لأعتمد بكبدي) ألصق بطني بالأرض. (لأشد) أربط، وفائدة شد الحجر المساعدة على الاعتدال والقيام. (طريقهم) أي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. (فأذن لي فدخل) وفي رواية (فأذن لي فدخلت).
(أضياف الإسلام) ضيوف المسلمين. (يأوون) ينزلون ويلتجئون. (فساءني ذلك) أهمني وأحزنني. (جاء..) أي الذي أمرني بدعوته وهم أهل الصفة].
حدثنا قيس قال: سمعت سعداً يقول:
إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة، وهذا السَّمُرُ، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة، ما له خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزِّرني على الإسلام، خبت إذاً وضل سعيي.
(الحبلة) شجر له شوك. (السمر) نوع من الشجر. (ليضع) يتغوط. (ما له خلط) لا يختلط بعضه ببعض لجفافه وشدة يبسه، الناشيء عن خشونة العيش. (تعزرني على الإسلام) تقومني وتعلمني أحكامه. (خبت إذاً) إذا كان حالي كذلك فقد خسرت. (ضل سعيي) ضاع عملي من قبل].
عن عائشة قالت:
ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة، من طعام بر ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض.
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر.
عن عائشة قالت:
كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم، وحشوه من ليف.
[ش (أدم) جلد مدبوغ. (ليف) قشر النخيل].
حدثنا قتادة قال:
كنا نأتي أنس بن مالك وخبَّازه قائم، وقال: كلوا، فما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققا حتى لحق بالله، ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط.
عن عائشة رضي الله عنها قالت:
كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً، إنما هو التمر والماء، إلا أن نؤتى باللُّحَيم.
[ش (باللُّحَيم) تصغير لحم، وأشارت بذلك إلى قلته].
عن عائشة: أنها قالت لعروة: ابن أختي،
إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كان لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبياتهم فيسقيناه.
[ش (يعيشكم) من أعاشه الله أي أعطاه العيش، وهو ما يقتات به الإنسان.
(من أبياتهم) أي يبعثون بشيء من بيوتهم].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزق آل محمد قوتاً).
[ش أخرجه مسلم في الزكاة، باب: في الكفاف والقناعة. وفي أوائل الزهد والرقائق، رقم: 1055.
(قوتاً) ما يسد حاجتهم من طعام وشراب ولباس ونحو ذلك].

باب: القصد والمداومة على العمل.
عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها:
أي العمل كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: الدائم، قال: قلت: فأي حين كان يقوم؟ قالت: كان يقوم إذا سمع الصارخ.
عن عائشة أنها قالت:
كان أحب العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدوم عليه صاحبه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحداً منكم عمله). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشئ من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا).
(اغدوا) من الغدو وهو السير أول النهار. (روحوا) من الرواح وهو السير في النصف الثاني من النهار. (الدلجة) السير آخر الليل. (القصد) الزموا الوسط المعتدل في الأمور. (تبلغوا) مقصدكم وبغيتكم].
عن عائشة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سددوا وقاربوا، واعلموا أنه لن يُدخل أحدكم عمله الجنة، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل).
[6102]
[ش أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله، رقم: 2818.
(سددوا) افعلوا السداد، وهو الاعتدال في القول والعمل واختيار الصواب منهما. (قاربوا) تقربوا من الغاية ولا تفرطوا. (أحب الأعمال) أكثرها قبولاً.
(أدومها) ما استمر منها وواظب عليه فاعله].
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: (أدومها وإن قل). وقال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون).
[ش (اكلفوا) ألزموا أنفسكم وكلفوها. (ما تطيقون) ما تستطيعون فعله دائماً ولا تنقطعون عنه].
عن علقمة قال:
سألت أم المؤمنين عائشة قلت: يا أم المؤمنين، كيف كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم، هل كان يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: لا، كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع.
عن عائشة،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخل أحداً الجنةَ عملُه). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة).
وقال مجاهد: {سديداً} /النساء: 9/: سداداً: صدقاً.
[ش (أبشروا) سروا وافرحوا، وأدخلوا الفرح والسرور على بعضكم.
(يتغمدني) يسترني. (سديداً) اللفظ: أيضا في /الأحزاب: 70/. والسداد: الصواب من القول. والسديد: ما أصاب الفصل والقصد، ووافق العدل والشرع].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعته يقول:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى لنا يوماً الصلاة، ثم رقي المنبر، فأشار بيده قبل قبلة المسجد، فقال: (قد أريت الآن منذ صليت لكم الصلاة، الجنة والنار، ممثلتين في قبل هذا الجدار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، فلم أر كاليوم في الخير والشر).
[ش (قبل هذا الجدار) قدام هذا المسجد].