الحمد لله ذي الملكوت والسلطان، والصلاة والسلام على رسول ربنا الرحمن، محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام، أما بعد: أخي المسلم: هل رأيت القبور؟ هل رأيت ظلمتها؟ هل رأيت وحشتها؟ هل رأيت شدتها؟ هل رأيت ضيقها؟ هل رأيت هوامها وديدانها؟

أما علمت أنها أعدت لك كما أعدت لغيرك؟

أما رأيت أصحابك وأحبابك وأرحامك نقلوا من القصور إلى القبور..ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود..ومن ملاعبة الأهل والولدان إلى مقاساة الهوام والديدان..ومن التنعيم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الثرى والتراب..ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة..ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل؟ فأخذهم الموت على غرة، وسكنوا القبور بعد حياة الترف واللذة، وتساووا جميعاً بعد موتهم في تلك الحفرة، فالله نسأل أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.

أتيـت القبور فساءلتــها أين المعظـــم والمحتقر؟!
وأين المــــذل بسـلطانه وأين القوي على ما قدر؟!


تفانوا جميعاً فما مــــخبر وماتوا جميعاً ومات الخير!!
فيا سائلي عن اناس مضــوا أما لك فيما مضى معتبر؟!
تروح وتغدو بنات الــثرى فتمحو محاسن تلك الصور!


هـول القبـور:
عن هانئ مولى عثمان قال:كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته، فقيل له:تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ( القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه) ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه) [ أحمد والترمزي وحسنه الألباني] .

وفي حديث جابر ابن عبدالله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد) [ أحمد وحسنه الهيثمي] .

أخـي الكـريـم:

تجهز إلى الأجداث ويحك والرمس جهازاً من التقوى لطول ما حبس
فإنك ما تدري إذا كنت مصبحـاً بأحسـن ما ترجو لعلك لا تمسـي


شيع الحسن جنازة فجلس على شفير القبر فقال:« إن أمراً هذا آخره لحقيق أن يزهد في أوله، وإن أمراً هذا أوله لحقيق أن يخاف آخر» .

ووعظ عمر بن عبد العزيز يوماً أصحابه فكان من كلامه أنه قال: « إذا مررت بهم فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم..سل غنيهم ما بقي من غناه؟..واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا للذات بها ينظرون..واسألهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؟!..أكلت الألسن، وغفرت الوجوه، ومحيت المحاسن، وكسرت الفقار، وبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء فأين حجابهم وقبابهم؟ وأين خدمهم وعبيدهم؟ وجمعهم وكنوزهم؟ أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والمال والأهل ».

فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد؟ وأين ثمارك اليانعة؟ وأين رقاق ثيابك؟ وأين طيبك وبخورك؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟..ليت شعري بأي خديك بدأ البلى..يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموت..ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا..وما يأتيني به من رسالة ربي »..ثم انصرف -رحمه الله- فما عاش بعد ذلك إلا جمعة.

إخوتي:تفكروا في الذين رحلوا..أين نزلوا؟ وتذكروا، القوم نوقشوا وسئلوا..واعلموا أنكم كما تعذلون عذلوا..ولقد ودوا بعد الفوات لو قبلوا..ولكن هيهات هيهات وقد قبروا.

عن وهب بن الورد قال:بلغنا أن رجلاً فقيهاً دخل على عمر بن عبدالعزيز فقال:سبحان الله! فقال له عمر:وتبينت ذلك فعلاً؟ فقال له:الأمر أعظم من ذلك! فقال له عمر:«يا فلان! فكيف لو رأيتني بعد ثلاث، وقد أدخلت قبري..وقد خرجت الحدقتان، وتقلصت الشفتان عن الأسنان..وانفتح الفم..ونتأ البطن فعلا الصدر..وخرج الصديد من الدبر؟!!» .

وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه:"ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك بعد الموت؟ ثم يقول:أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم..من الموت موعده..والقبر بيته..والثرى فراشه..والدود أنيسه..وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر..كيف يكون حاله؟!"، ثم بكي رحمه الله.

عظـة القبـور:

قال عبدالحق الأشبيلي: « فينبغي لمن دخل المقابر أن يتخيل أنه ميت، وأنه قد لحق بهم، ودخل معسكرهم، وأنه محتاج إلى ما هم إليه محتاجون، وراغب فيما فيه يرغبون، فليأت إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، وليتحفهم بما يحب أن يتحف به، وليتفكر في تغير ألوانهم، وتقطع أبدانهم، ويتفكر في أحوالهم، وكيف صاروا بعد الأنس بهم والتسلي بحديثهم، إلى النفار من رؤيتهم، والوحشة من مشاهدتهم وليتفكر أيضاً في انشقاق الأرض وبعثرة القبور، وخروج الموتى وقيامهم مرة واحدة حفاة عراة غرلاً، مهطعين إلى الداعي، مسرعين إلى المنادي ».

يا أيها المتسمـن قل لي لمـن تتسمـن؟
سمنت نفسك للبـلى وبطنت يا مستبطن
وأسأت كل إساءة وظننت أنك تحسـن!
مالي رأيتك تطمئن إلى الحياة وتركن!
اليوم أنت مكـاثـر ومفاخــر تتزين
وغـداً تصير إلى القبور محنط ومكفن!
أحـدث لربك تـوبة فسبيلها لك ممكن
واصرف هواك لخوفه مما تسر وتعلن


عن محمد بن صبيح قال:« بلغنا أن الرجل إذا وضع في قبره، فعذب أو أصابه ما يكره، ناداه جيرانه من الموتى:يا أيها المتخلف في الدنيا فبعد إخوانه! أما كان لذلك فينا معتبر؟ أما كان لك في تقدمنا إياك فكرة؟ انقطاع أعمالنا وأنت في المهل؟ فهلا استدركت ما فات إخوانك ».

فتنـة القبـور:

أخي المسلم: ماذا أعددت لأول ليلة تبيتها في قبرك؟ أما علمت أنها ليلة شديدة، بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، وشمر لها الصالحون الأتقياء؟

فارقت موضـع مرقـدي يوماً فقارققني الســكون
القــــبر أول ليلة بالله قل لي ما يكــــون؟


كان الربيع بن خثيم يتجهز لتلك الليلة، ويروى أنه حفر في بيته حفرة فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيها، وكان يمثل نفسه أنه قد مات وندم وسأل الرجعة فيقول: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾[ المؤمنون:99-100] ، ثم يجيب نفسه فيقول: ( قد رجعت يا ربيع!! ) فيرى فيه ذلك أياماً، أي يرى فيه العبادة والاجتهاد والخوف والوجل.

وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشعوف خائف ثم يقال له فيم كنت؟ فيقول:كنت في الإسلام، فيقال له:ما هذا الرجل؟ فيقول:محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له:هل رأيت الله؟ فيقول:ما ينبغي لأحد أن يرى الله.فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له:انظر إلى ما وقاك الله، ثم يفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها، فيقال له:هذا مقعدك ويقال له:على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله .ويجلس الرجل السوء في قبره فزعاً مشعوفاً فيقال له:فيم كنت فيقول لا أدري فيقال له ما هذا الرجل فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلته فيفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له:انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضاً فيقال له:هذا مقعدك على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله تعالى ) [ ابن ماجة وصححه] .

قـال البـوصيـري :

أبوا إلا مباهاة وفخـــــراً على الفقراء حتى في القبـــور
لعمرك لو كشفت التـراب عنهم فما تدري الغني من الفقــــير
ولا الجلد المباشر ثوب صـوف مـن الجلد المباشـر للحـريـر

إذا أكـل الثـرى هـــــذا وهـذا فمـا فضـل الغنـي علـى الفقـــيـر؟
فيـا إخـوتـاه! ألا تبكـون مــن المـوت وسكـرتـه؟
يـا إخـوتـاه! ألا تبكـون مـن القبـر وضمتـه؟
ويـا إخـوتـاه! ألا تبكـون خـوفـاً مـن النـار فـي القيـامـة؟
ويـا إخـوتـاه! ألا تبكـون خـوفـاً مـن العطـش يـوم الحسـرة والنـدامـة؟

منقوووووول للفائده