تساؤلات

(1)

الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وبعد

حين تتابعت الانسحابات في أفغانستان من قبل الإمارة الإسلامية وبدأت تفقد بعض المكتسبات ومنها المدن والآليات دب اليأس إلى كثير من المسلمين وانتابهم شعور بالهزيمة ودنو نهاية المجاهدين هناك ومن خلال هذا الشعور بدا همس هنا وهناك بأن المجاهدين قد أخطئوا حساباتهم وأنهم فوجئوا بما لم يتوقعوه ، وأنهم كانوا قد تعجلوا وجروا إلى أنفسهم معركة لم تكن متكافئة 0

ولما كانت مثل هذه الخطرات لم يسلم منها الأكثرون حتى من بعض أهل العلم فقد كان لزاماً أن نقف معها بعض وقفات هي بمثابة محطات للمتأمل في هذه القضية وفي غيرها .

ولأهميتها فقد فصلنا فيها فاستدعى الأمر نشرها على حلقات تأخذ كل حلقة عنوانا مستقلا.

راجين موافاتنا من قبل العلماء وطلبة العلم بتساؤلاتهم وآرائهم حولها ليتم بذلك تأصيل مثل هذه القضايا المهمة والتي لا تمس واقعنا الآن فحسب في أفغانستان بل لتكون تأصيلاً في الجهاد إلى جانب ما كتب فيه من تأصيل شرعي في هذا العصر .

مدخل

يجب أن نتناول هذه القضية بحياد وإنصاف وواقعية بعيداً عن الإفراط في التفاؤل والتماس الأعذار وبعيداً أيضاً عن التحامل والتعجل بردة الفعل العكسية 0

فمن حيث الواقع لاشك أن الانسحاب الذي حدث ليس كله على وفق خطة مرسومة لم تتخلف ، وليس كذلك انسحاباً اضطرارياً مفاجئا .

فلقد كان كثير من الانسحابات قد خطط لها ولكن ربما لم تنل من الوقت الكافي لذلك التخطيط والترتيب ولم تتم أيضاً على الوجه المطلوب وإن كان كثير منها قد حالفه النجاح بدرجة جيدة ولله الحمد تصل إلى 80% ، ومن المهم أن نشير إلى أن تلك الانسحابات الناجحة في معركة بهذا الحجم وبهذه الأعداد الضخمة يعد وحده نصراً منفرداً .

نعم قد وقعت بعض الأخطاء لا حاجة للإفصاح عنها الآن كما أنها قد وقعت بعض الخيانات مما لا يسلم منه جيش مهما بلغت نزاهته فقد كان في جيش محمد صلى الله عليه وسلم منافقون وقد قال الله تعالى ( وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لاتعلمهم نحن نعلمهم ) .

ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع عبد الله بن أبي المنافق بثلث الجيش فماذا يقال في قيادة ذلك الجيش أتراها أخطأت الحسابات ؟ حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد في حقه ذلك لكنه بشر من البشر قد يقع له ما لم يعلم أن سيقع ، فإذا لا يعد ما وقع من خيانات وأخطاء في حسابات المجاهدين ولا ما قد يقع من ذمم قد تشترى كذلك، حسبهم أن يحاذروا ذلك ما استطاعوا وهم إن شاء الله فاعلون .

وقد قال الله في الصحابة رضي الله عنهم ((منكم من يريد الدنيا ومنكم من يرد الآخرة )) فما لنا نتطلب في هذا الزمان جهاداً ومجاهدين أنقى وأتقى مما كان في ذلك الجيل المثالي ؟!

ومن الشجاعة القول بأن إلجاء المجاهدين إلى الخروج من المدن هو نوع انتصار للحملة الغاشمة الظالمة ولكنه انتصار جزئي وتقدم محدود في مرحلة من مراحل الحرب لا ينبغي بحال أن يكون انتصاراً كلياً يقابله هزيمة ساحقة 0

ولا حاجة للإطالة في ذكر فوائد الانسحاب فبالإمكان مراجعة ما نشرناه نحن مركز الدراسات بعنوان ( ملخص الموقف قبل وبعد الحرب ) ، وكذلك ما نشر في بعض المواقع من التحليلات الجيدة كمقال بقلم أبي عبيد القرشي (من يهزم من في أفغانستان) ، فقد اشتمل على تحليل عسكري مقنع .

وإليكم أولى هذه الحلقات بعنوان (هل استُدرج المجاهدون إلى معركة غير متكافئة؟)

هل استُدرج المجاهدون إلى معركة غير متكافئة؟

إن دعوى أن المجاهدين جروا إلى أنفسهم أوجروا أنفسهم إلى معركة غير متكافئة أو استدرجوا إليها يستلزم الوقوف مع ما يلي :

1- ماذا يعني قائل ذلك بقوله (جروا) فإن كان المقصود ما حدث في 11سبتمبر من الهجوم فهو تأكيد الدعوى الأمريكية بأن فاعل ذلك هم المجاهدون وهذا ما لم يعترفوا به ولم يثبته الأمريكان أيضاً بدليل مادي قضائي ، وقد استعرت الحرب وهم لا يملكون أي مؤشر يدل على هوية الفاعلين .

2- على فرض صحة ما نسب إلى المجاهدين من هذا العمل فهل كان ذلك حقاً هو الدافع لأمريكا أن تأتي إلى أفغانستان ؟!

إن أمريكا كانت منذ زمن تريد وأد طالبان والجهاد وقد صرح وزير الخارجية الباكستاني الأسبق نياز زينك أن مسؤولين كباراً في الحكومة الأمريكية أبلغوه في منتصف شهر يوليو تموز من عام 2001م بأن الولايات المتحدة ستتخذ إجراءات عسكرية ضد أفغانستان بحلول منتصف شهر أكتوبر تشرين أول 2001م ، وقال الوزير الباكستاني السابق إن المسؤولين الأمريكيين أبلغوه بالخطة أثناء انعقاد مؤتمر لدول مجموعة الاتصال الخاصة بأفغانستان الذي عقد تحت رعاية الأمم المتحدة في برلين .

وقال نياز إن المسؤولين الأمريكيين أبلغوه أنه إذا لم يتم تسليم بن لادن على الفور فإن الولايات المتحدة ستقوم بعمل عسكري لاعتقاله أو قتله هو والملا عمر زعيم حركة طالبان ، ويشير المسؤول الباكستاني إلى أن الهدف الأوسع من تلك العملية سيكون إسقاط حكومة طالبان وتنصيب حكومة انتقالية من الأفغان المعتدلين من الممكن أن يتزعمها ملك أفغانستان السابق ظاهر شاه .

وأوضح المسؤول الباكستاني السابق أن واشنطن ستشن عملياتها من قواعد في طاجكستان حيث يقيم عدد من المستشارين الأمريكيين بالفعل .

وقال إن أوزبكستان ستشارك في العمليات وأن سبعة عشر ألف جندي روسي يقفون في حالة استعداد ، مشيراً إلى أن العمليات العسكرية ستتم قبيل سقوط الثلوج في أفغانستان بحلول منتصف أكتوبر تشرين أول على أكثر تقدير .

وشكك المسؤول الباكستاني السابق في إمكانية تراجع الولايات المتحدة عن خططها حتى إذا تم تسليم بن لادن على الفور من قبل الإمارة الإسلامية .

وقد نقلت ( البي بي سي ) هذا التقرير عن دبلوماسي باكستاني سابق قوله ، بأن الولايات المتحدة كانت تخطط لعمليات عسكرية ضد أسامة بن لادن وحركة طالبان حتى قبل وقوع هجوم ( 11 سبتمبر ) .

نعم ربما لم تكن أمريكا تستطيع جمع كل هذا التحالف والتأييد وبهذه السرعة لولا أحداث الحادي عشر من أيلول لكن هذا لا يعني أن تكون تلك الأحداث سبباً لجر أمريكا ومن ثم إلى معركة غير متكافئة لاسيما إذا أخذ بالاعتبار ما لأمريكا من أطماع في المنطقة فليس ما حدث إذاً سوى تعجيل لمجئ العدو إن صدق أنه تعجيل 0

3- وما الذنب الذي ارتكبه المجاهدون أو الإمارة الإسلامية إذا كانوا هم وراء تلك الضربات ، ففعلهم هذا هو من قبيل جهاد الدفع لا من جهاد الطلب ، فالعدو يحاصر أرضهم ويقتل المسلمين في افغانستان بالحصار وبدعم التحالف ، فإما أن تنتظر الإمارة أجلها المحتوم أو تدافع عن نفسها بكل الوسائل المتاحة ، ففعل المجاهدين لا يعد تعجل بل هو دفاع عن النفس والدفاع عن النفس لا يحتاج إلى تردد ، وقد بين الشيخ أسامه حفظه الله في خطابه الأخير من خلال قصة الذئب والحمل حالنا وحال أمريكا معنا ، فكل ما نفعله بأمريكا هو من قبيل الدفاع عن النفس ، فكيف يقال لمن دافع عن نفسه بأنه تعجل وجر على نفسه حرباً والحرب قائمة ضده منذ سنوات ؟! .

4- إذا اعتبرنا ما حدث في الحادي عشر هو من أعمال المجاهدين وعلى اعتبار أنه عمل جهادي لا غبار عليه ( أي بعيداً عن الخلاف في أصل مشروعيته) فهل هو على هذا الأساس عمل متعجل جر على المجاهدين معركة غير متكافئة ؟!

إن التعجل أيضاً هو الحكم على ذلك من غير تأمل ونظر وبحث وتحرٍّ ، ولأجل تجلية المسألة سنناقشها فيما يلي ولكن بناء على افتراضين :

الأول أن ما حدث في الحادي عشر هو من عمل المجاهدين 0

الثاني أن هذا العمل جهاد مشروع لا مرية فيه .

هذان الافتراضان لابد من استصحابهما عند قراءة المناقشة الآتية من أجل أن تتضح الرؤية ويتجلى الحكم ويُفقه الاستدلال0

وإلا فمن خالف مثلاً في كون ما حدث جهاداً مشروعاً لا ينبغي أن يقرأ المناقشة حتى يحرر المسألة في أصلها، مما قد تناوله آخرون يمكن الرجوع إلى ما كتبوا فيه .

أو عليه أن يقرأ متنزلاً على القول بذلك ، (مع أن هذه المناقشة وإن كانت في هذه القضية غير أنها تطرح ما يمكن الاستفادة منه في أكثر من قضية )

فأولاً ما معنى التكافؤ؟!

هل التكافؤ هو المساواة في العدة والعتاد والرجال أيضاً ؟!

إن التاريخ يشهد أنه ما من معركة انتصر فيها المسلمون على عدوهم وكانوا أكثر منه عدداً وعدة بل العكس لاسيما في المعارك المشهورة كمعارك النبي صلى الله عليه وسلم بلا استثناء ومعارك أصحابه رضي الله عنهم كالقادسية واليرموك وغيرها في التاريخ كثير0

بل لما أعجب المسلمون بكثرتهم في حنين هزموا أول الأمر كما قال سبحانه (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين)

وإن انتظار المعركة المتكافئة حتى ولو نسبيا كما قد يقال هو في الحقيقة يؤدي في النهاية إلى أن لا تكون معركة أصلا ، بل العدو يزداد قوة وما يزيدنا الوقت إلا ضعفاً من حيث المنظور العسكري إذ هو المقصود هنا بالتكافؤ وأما من حيث جوانب أخرى فلا ينبغي إدراجها في الحساب هنا لأن ذلك لا يعد تكافؤاً0

ثانياً أين التكافؤ في غزوة مؤتة والمسلون ثلاثة آلاف والعدو مائتا ألف نسبة لا تخطر على بال( 100:1,5) وإن شئت قلت كل مجاهد من المسلمين يقابل أكثر ستة وستين مقاتلاً من العدو 0

ومع ذلك قاتل المسلون وأبلوا بلاءً حسناً حتى قتل قادة المعركة كلهم زيد وجعفر وابن رواحة رضي الله عنهم أجمعين ، ولقد كانوا ترددوا لما علموا بكثرة عدد العدو لكن ابن رواحة رضي الله عنه شجعهم على المضي0

ولما رجعوا لم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على دخولهم المعركة غير المتكافئة ، بل العكس فإن المسلمين استقبلوهم يحثون في وجوههم التراب ويقولون يا فرار أفررتم في سبيل الله ؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا بفرار ولكنهم كُرار إن شاء الله .

ومن فوائد هذه الغزوة أن من مقاصد الجهاد إظهار عزة الإسلام وهيبته وقوته وأن أهله لا يهابون الموت وإن لم يتحقق بذلك نصر حاسم كما هو الشأن في هذه الغزوة 0

إن عدم التكافؤ هو حين يقصر المسلمون في إعداد أنفسهم ولا يبذلون الوسع والطاقة في ذلك أما حين يأخذون بقوله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )فإن ما فوق ذلك ليس مما كلفوا به 0

ثالثا من ذا الذي كان يجزم بما حدث حتى يقال إن المجاهدين جروا لأنفسهم ذلك ؟!

إن أمريكا قد ضُربت أكثر من مرة وقد اتهمت المجاهدين في أفغانستان في كل ضربة ومع ذلك لم تزد على إطلاق صواريخ على أفغانستان .

ولقد كان من المحتمل ذلك حتى بعد حادث الحادي عشر وهي وإن كانت أكبر بكثير مما سبقها غير أن نزول أمريكا الميدان لم يكن خياراً قوياً بل هو خيار مطروح و(سيناريو) محتمل لا غير وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة للقول بأن ما حدث كان قطعاً مؤدياً إلى ما صار عليه الأمر الآن .

وهاهنا سؤال : هل المسلم يقف عن قتال العدو والنكاية فيه خشية الرد من قبله ؟

نجيب عنه في الحلقة القادمة إن شاء الله التي بعنوان ( إذا ترتب على الجهاد رد من العدو ؟ )

والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

مركز الدراسات والبحوث الإسلامية



نقلا عن وحيد غريب : شبكة أنا المسلم