الحمد الله القائل: {واتقوا فتنة لا تُصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} [الأنفال: 25]. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: «تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن» (رواه مسلم). أما بعد:
فإن من سنة الله في الأولين والآخرين أن يبتلي ما في صدورهم، ويمحص ما في قلوبهم، بأنواع الفتن الكاشفة، والمحن القاهرة، ليعلم الذين نافقوا، ويعلم المؤمنين. والله عليم بذات الصدور. قال تعالى: {ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنبكوت: 1-3].
تعريف الفتنة:
قال الراغب الأصبهاني، -رحمـــه الله-: «أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته» (المفردات: 372)، وقال ابن منظور: «قال الأزهري وغيره: جماع معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار. وأصلها مأخوذ من قولك: فتنت الفضة والذهب، إذا أذبتهما بالنار، لتميز الرديء من الجيد» (لسان العرب: 3344، مادة: فتن).
أنواع الفتن:
قال ابن القيم -رحمه الله-: «الفتنة نوعان: فتنة الشبهات، وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما» (إغاثة اللهفان: 2/160). وميدان الصراع لهذه الفتن، القلوب، فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير، عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا، كالكوز مجخيًا، لايعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه» (رواه مسلم).
والفتن أقسام، باعتبار ذاتها، ومآلاتها، ومتعلقاتها، فمنها: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، فتنة المؤمن، وفتنة الكافر، فتنة المحيا، وفتنة الممات، فتنة القبر، وفتنة النار، فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، وفتن تموج كموج البحر.
الاعتصام بالله: قال تعالى {ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران: 101].
قال ابن كثير، رحمه الله: «الاعتصام بالله، والتوكل عليه هو العمدة في الهداية، والعدة في مباعدة الغواية، والوسيلة إلى الرشاد، وطريق السداد، وحصول المراد» (التفسير: 2/86). وقال تعالى: {واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير} [الحج: 78]. قال السعدي رحمه الله: «أي امتنعوا به، وتوكلوا عليه في ذلك، ولا تتكلوا على حولكم وقوتكم، هو مولاكم الذي يتولى أموركم، فيدبركم بحسن تدبيره، ويصرفكم على أحسن تقديره. فنعم المولى لمن تولاه فحصل له مطلوبه، ونعم النصير لمن استنصره، فدفع عنه المكروه» (التفسير).
ومن الاعتصام بالله: الفزع إلى الصلاة، فـ"الصلاة نور" (رواه مسلم). وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» (رواه الطبري).
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويلقى الشح، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال: القتل القتل» وفي رواية: «إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج» وفي أخرى: «بين يدي الساعة أيام الهرج، يزول فيها العلم، ويظهر فيها الجهل» (رواه البخاري). فبين زوال العلم أو نقصه، وظهور الفتن تلازم ظاهر، فيكون استدفاع الفتن بإفشاء العلم وبثه.
الحذر من فتنة المال:
«عن أم سلمة، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: استيقظ رســول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة، فزعًا، يقول: سبحان الله! ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات؟ يريد أزواجه، لكي يصلين. رب كاسية في الدنيا عارية في الآخــــرة» (رواه البخـــاري). قــال ابن بطال: "في هذا الحديث: أن الفتوح في الخزائن، تنشأ عنه فتنة المال، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه، وأن يبخل به فيمنع الحق، أو يبطر صاحبه فيسرف" (الفتح: 13/30).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا» (رواه البخاري).
وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا؟ قلت: أجل. قال: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يوشك الفرات أن يحسر عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله. قال: فيقتتلون عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون» (رواه البخاري).
هذا؛ وإن الترف من أعظم دواعي الفتنة والهلاك، كما قال تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء: 16). وقال تعالى: {وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل: 112).
الروابط المفضلة