الحمد لله القائل: { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) " سورة الرعد: 28
نحمده سبحانه وهو للحمد أهل ، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين ؛ أما بعد:
فإن ذكر الله - جل وعلا - من العبادات الميسورة التي لا عناء فيها ولا تعب ، وتأتى للعبد في معظم أحواله ،
ومع سهولتها ويسرها هي عظيمة الأجر، جليلة القدر، فعن أبي الدردا ء قال: قال رسول الله :
( ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأزكاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق ،
وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله ) ..
أخرجه الترمذي وأحمد ( 6 / 447 )، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ( 1 / 673 ).
« دعاء القنوت في صلاة الوتر» ..
عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: " علمني رسول الله كلمات أقولهن في الوتر:
( اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطت، وقني شر ما قضيت،
إنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت )رواه أبو داود (1425) والنسائي (1745)
« اللهم اهدنا فيمن هديت » ..
أي دلنا على الحق ووفقنا للعمل به ؛ وذلك لأن الهداية
التامَّة النافعة هي التي يجمع الله فيها للعبد بين العلم والعمل؛ لأن الهداية بدون عمل لا تنفع ، بل هي ضرر؛ لأن الإنسان إذا لم يعمل بما علم صار علمه وبالاً عليه .. مثال الهداية العلمية بدون العمل:
قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْالْعَمَى عَلَى الْهُدَى } " فصلت: 17"، أي بينَّا لهم الطريق وأبلغناهم العلم ، ولكنهم ـ والعياذ بالله ـ استحبواالعمى على الهدى ..
ومن ذلك أيضًا من الهداية التي هي العلم وبيان الحق، قول الله تبارك وتعالى للنبي : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى: 52.. أي تدل وتبين وتعلم الناس الصراط المستقيم ..
وأما الهداية التي بمعنى التوفيق فمثل قوله تعالى: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56]
هذهِ هداية التوفيق للعمل ، فإذا قلنا في دعاء القنوت
« اللهم اهدنا فيمن هديت » فإننا نسأل الهدايتين، هداية العلم وهداية العمل ، كما أن قوله تعالى:
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } " الفاتحة: 6"،
يشمل الهدايتين هداية العلم ، وهداية العمل ، وقوله:
« فيمن هديت » هذه من باب التوسل بإنعام الله تعالى على من هداه ، أنينعم علينا نحن أيضًا بالهداية..
ويعني: أننا نسألك الهداية فإن ذلك من مقتضى رحمتك وحكمتك ومن سابق فضلكفإنك قد هديت أناسًا آخرين.
عافنا من أمراض القلوب وأمراض الأبدان.. وينبغي أن تستحضروأنت تدعو، أن الله يعافيك من أمراض البدن ،وأمراض القلب ؛ لأن أمراض القلب أعظم من أمراض البدن ولذلك نقول في دعاء القنوت:
« اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا»..أمراض الأبدان معروفة لكن أمراض القلوب تعود إلى شيئين:
الأول: أمراض الشهوات التي منشؤها الهوى..
الثاني: أمراض الشبهات التي منشؤها الجهل.
« وتولنا فيمن توليت »..
أي كُنْ وليًّا لنا، والولاية نوعان: عامَّة وخاصَّة. فالولاية الخاصَّة: للمؤمنين خاصَّة ، كما قال تعالى:
{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ
مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } " البقرة: 752 " ، فتسأل الله تعالى الولاية الخاصة التي تقتضي العناية بمن تولاه الله عزَّ وجلَّ والتوفيق لمايحبه ويرضاه ..
أما الولاية العامة، فهي تشمل كل أحد، فالله ولي كل أحد، كماقال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } " الأنعام: 16"،
وهذا عام لكل أحد ، ثم قال:
{ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } " الأنعام: 26" ..
لكن عندما نقول: « اللهم اجعلنا من أوليائك »، أو « اللهم تولنا » ،فإننا نريد بها الولاية الخاصة ، وهي تقتضي العناية والتوفيق لما يحبه ويرضاه
« وبارك لنا فيما أعطيت »..
البركة هي الخير الكثير الثابت ، ويعيد العلماء ذلك إلى اشتقاق هذهالكلمة ، فإنها من البِرْكة ، بكسر الباء وهى
مجمع الماء ، فهي شيء واسع ماؤه كثير ثابت. فالبَرَكَة هي الخيرات الكثيرة الثابتة. والمعنى أي: أنزل لي البركة فيما أعطيتني..
أي :.. أعطيت من المال والولد والعلم وغير ذلك مما أعطى الله عزَّ وجلَّ ، فتسأل الله البركة فيه ؛
لأن الله إذا لم يبارك لك فيما أعطاك ، حرمت خيرًا كثيرًا.. ماأكثر الناس الذين عندهم مال كثير لكنهم في عداد الفقراء؛
لأنهم لا ينتفعون بمالهم ، يجمعونه ولا ينتفعون به.. وهذا من نزع البركة. كثير من الناس عنده أولاد، لكن أولاده
لا ينفعونه لما فيهم من عقوق، وهؤلاء لم يُبَارَكْ لهم في أولادهم
« وقنا شر ما قضيت » ..
الله عزَّ وجلَّ يقضي بالخير ويقضي بالشر.. أما قضاؤه بالخير فهو خير محض في القضاء والمقضي..
مثال القضاء بالخير: القضاء للناس بالرزق الواسع ، والأمن والطمأنينة ، والهداية والنصر.. إلخ.
هذا خير في القضاء والمقضي...القضاء بالشر: خير في القضاء ، شر في المقضي..
مثال ذلك: القحط (امتناع المطر) هذا شر، لكن قضاء الله به خير، كيف يكون القضاء بالقحط خيرًا..؟
لو قال قائل: إن الله يقدّر علينا القحط ، والجدب ، فتموت المواشي ، وتفسد الزروع ، فما وجه الخير..؟
نقول: استمعِ إلى قول الله سبحانه وتعالى:
{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } " الروم: 14"،
إذًا لهذا القضاء غاية حميدة ، وهي الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى من معصيته
إلى طاعته ، فصار المقضي شرًّا والقضاء خيرًا.. وعلى هذا فـ « ما » هنا اسم موصول.. والمعنى:
قِنَا شرَّ الذي قضيت ، فإن الله تعالى يقضي بالشرِّ لحكمة بالغة حميدة ،..
وليست ( ما ) هنا مصدرية أي شر قضائك لكنها اسم موصول بمعنى الذي ؛ لأن قضاء الله ليس فيه شر،
ولهذا قال النبي فيما أثنى به على ربه:
« والخير بيديك والشر ليس إليك » لهذا لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى.. « إنك تقضي ولا يقضى عليك ».. الله عزَّ وجلَّ يقضي قضاء شرعيًّا وقضاء كونيًّا ،
فالله تعالى يقضي على كل شيء وبكل شيء ؛ لأن له الحكم التام الشامل..
« ولا يقضى عليك »
أي لا يقضي عليه أحد، فالعباد لا يحكمون على الله ، والله يحكم عليهم، العباد يُسألون عما عملوا، وهو لا يُسأل:
{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } "الأنبياء: 32"..
« إنه لا يذل من واليت، ولا يعزّ من عاديت »..
وهذا كالتعليل للقول فيما سبق: « وتولنا فيمن توليت »، فإذا تولى الله الإنسان .. فإنه لا يذل ، وإذا عادى الله الإنسان فإنه لا يعز..
ومقتضى ذلك أننا نطلب العز من الله سبحانه ، ونتق من الذل بالله عزَّ وجلَّ، فلايمكن أن يذل أحد والله تعالى وليه ،
فالمهم هو تحقيق هذه الولاية.. وبماذا تكون هذه الولاية..؟ هذهِ الولاية تكون بوصفين بيّنهما الله عزَّ وجلَّ في كتابه ، فقال عزَّ وجلَّ:
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} "يونس: 26، 36"..وصفات أحدهما في القلب ، والثاني في الجوارح. (الذين آمنوا) في القلب ،
( وكانوا يتقون) هذه في الجوارح ،فإذا صلح القلب والجوارح ؛ نال الإنسان الولاية بهذين الوصفين،
وليست الولاية فيمن يدعيها من أولئك القوم الذين يسلكون طرق الرهبان وأهل البدع الذين يبتدعون في شرع الله ما ليس منه ، ويقولون نحن الأولياء.. فولاية الله عزَّ وجلَّ التي بها العز هي مجموعة في هذين الوصفين ..الإيمان والتقوى
« ولا يعز من عاديت »..
يعني أن من كان عدوًّا لله فإنه لا يعز، بل حاله الذل والخسران والفشل ، قال الله تعالى:
{ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } "البقرة: 89"، فكل الكافرين في ذل وهم أذلة..
« تباركت ربنا وتعاليت »..
هذا ثناء على الله عزَّ وجلَّ بأمرين: أحدهما التبارك ، والتاء للمبالغة ؛ لأن الله عزَّ وجلَّ هو أهل البركة..
« تباركت» أي كثرت خيراتك وعمت ووسعت الخلق؛ لأن البركة كما قلنا فيما سبق هي الخير الكثير الدائم..
وقوله:« ربنا » أي يا ربنا، فهو منادى حذفت منه ياء النداء ..
وقوله: « وتعاليت » من العلو الذاتي والوصفي. فالله سبحانه وتعالى عليٌّ بذاته وعليٌّ بصفاته عليٌّ بذاته فوق جميع الخلق،
وعلوه سبحانه وتعالى وصف ذاتي أزلي أبدي ،
أما استواؤه على العرش فإنه وصف فِعْلِيٌّ يتعلق بمشيئته سبحانه وتعالى ، والعرش: هو أعلى المخلوقات ، وعليه استوى الله عزَّ وجلَّ ، يعني علا عليه علوًّا يليق بجلاله وعظمته ،لا نكَيِّفُه ولا نمثِّله وهذا العلو أجمع عليه السلف الصالح..
لدلالة القرآن والسنة والعقل والفطرة على ذلك.. وأما العلو الوصفي فمعناه أن الله له من
صفات الكمال أعلاها وأتمها، وأنه لا يمكن أن يكون في صفاته نقص بوجه من الوجوه..
وفي دعاء القنوت جملة يكثر السؤال عنها مما يدعو به أئمتنا في قنوتهم، يقولون:
« هب المسيئين منا للمحسنين » فما معناها..؟
أقرب الأقوال فيها أنها من باب الشفاعة ، يعني أن هذا الجمع الكبير فيهم المسيء ، وفيهم المحسن ،
فاجعل المسيء هدية للمحسن بشفاعته له فكأنه قيل وشفع المحسنين منا في المسيئين.
الروابط المفضلة