المتكلمون بالدين
- 3 -
المُقرئ المُجيد محمد رفعت وتأثيره على احد القسيسين
ولست أنسى يوم كان المرحوم الشيخ محمد رفعت يرتل آيات الذكر الحكيم من إذاعة القاهرة في الثلاثينيات من هذا القرن، فقد كان الإقبال على سماعه مذهلاً حقاً، ليس من المسلمين فحسب، بل من غير المسلمين أيضاً...
وقد كنت أدرس اللغة الفرنسية عند أحد القسيسين الذين يُتقنون هذه اللغة في مدينة الموصل عام 1936م، وكانت هذه اللغة مُقرَّرة في الصفين الرابع والخامس من المدرسة الإعدادية، وكان مدرسها في الإعدادية وخيفاً صارماً فأدى ذلك إلى حرمان التلاميذ من مناقشته وسؤاله، ودفعهم إلى التماس تعلمها من القسيسين الذين –لم يكن أحد غيرهم في الموصل يتقن الفرنسية- ليتقوا صرامة معلمهم في المدرسة وشرِّه !. وكان الشيخ محمد رفعت يقرأ القرآن الكريم قبل أن ننتهي من دراستنا عند ذلك القسيس، فكان يلتمس من طلابه أن يستريحوا مدة قراءة القرآن الكريم لينصت هو إلى تلاوة الشيخ محمد رفعت!.
وكان طلاب القسيس الذين يدرسون الفرنسية معي يرقبون انسجامه العظيم مع المقرئ الشيخ محمد رفعت، وكان لا ينفك يردد بين آونة وأخرى.. عظيم.. عظيم.. وبعد انتهاء القراءة يبقى القسيس في (شبه غيبوبة) نحو خمس دقائق، ثم يستأنف التدريس بعد أن يقدم أحرّ الشكر لطلابه على السماح له بالإنصات إلى تلاوة الذكر الحكيم!. وكثيراً ما كان ذلك القسيس يبدي إعجابه الشديد ببلاغة بعض الآيات التي سمعها وبمعانيها وسمو أهدافها.
لقد كانت قراءة الشيخ المرحوم محمد رفعت في الإذاعة المسموعة دعاية ضخمة للقرآن الكريم ليس بين المسلمين فحسب، بل بين غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى أيضاً. وكنت أسمع صوته من أجهزة المذياع في دور قسم من المسيحيين في مدينة الموصل، ولابد أن غيري سمع صوته وهو يرتل القرآن الكريم يخترق جدران غير المسلمين في أصقاع كثيرة من البلاد العربية. وما يقال عن أثر المرحوم الشيخ محمد رفعت يقال عن أثر كل قارئ مُجيد. وكل خطيب مُجيد أيضاً، تنتقل أصواتهم الإذاعية المسموعة أو الإذاعة المرئية، أو ينقل أصواتهم المجهار. وإذا كان المجيدون قد أحسنوا إلى الدين، فما أكثر إساءة الذين أساءوا إلى الدين!.
ولو كنت مسؤولاً عن الإذاعة في بلد عربي أو إسلامي، لحرمت غير المُجيدين من الاقتراب من دار الإذاعة.
ولو كنت مسؤولاً عن علماء الدين، لحرمت غير المُجيدين من اقتراب من منابر الخطابة في بيوت الله.
ولو كنت مسؤولاً عن قضايا التدريس في المدارس والمعاهد والجامعات، لحرمت غير المُجيدين من الاقتراب من تلك المعاهد العلمية.
إن حرمان غير المُجيدين من التكلم بالدين خطباء ووعاظاً ومدرسين وأساتذة ومقرئين، أكبر خدمة نقدمها للدين الحنيف.
والمتكلمون بالدين لا يمكن أن يقاسوا بالكمية أي بكثرة عددهم، بل المهم في هذه الناحية (النوعية) لا (الكمية)، فقد يفيد عدد من المتكلمين بالدين ما يقصر عنه الكثيرون، وقد يفيد عشرة من المجيدين كما لا يفيد مائة من غير المجيدين.
فما هي المزايا التي يجب أن يتحلى بها المجيد من المتكلمين بالدين ؟.
يُروى أن أحد العبيد سأل إماماً من أئمة المسلمين –هو الحسن البصري- أن يتكلم في موضوع (أجر عتق الرقيق عند الله)، ووعد الإمام أن يتكلم في هذا الموضوع بأقرب فرصة سانحة، وكان العبد يحضر كل يوم مجلس وعظ الإمام. وكان سيده من المعجبين بهذا الإمام، يحضر مجالس وعظه كل يوم بانتظام، ويصغي إلى أقواله إصغاء تماماً، وينفذ إرشاداته ويطبق مواعظه. ومضى عام دون أن ينطق الإمام بكلمة واحدة حول الموضوع، والعبد يحضر كل يوم ويكاد يتميز من الغيظ على الإمام الذي أهمل موضوعه فنساه أو تناساه.
وبعد مضي عام كامل من مراجعة العبد للإمام ، ووعد الإمام بأنه سيتكلم قريباً بموضوع أجر عتق الرقيق عند الله، تكلم الإمام فجأة وأفاض في ذلك الموضوع وأجاد، فلم يبق في مجلسه رجل سمع كلامه إلا وأسرع في عتق رقبة أو رقاب، وكان سيد ذلك العبد من بين المستمعين فأعتق عبده وأطلق سراحه من ارق، وأصبح ذلك العبد حراً يستنشق عبير الحرية بملء رئتيه، ولكن بقي في نفسه شيء من ذلك الإمام الذي تأخر في إلقاء موعظته، وكان بإمكانه أن يفعل دون تأخير، وجاء العبد يسأل الإمام: لماذا جعلتني أقضي عاماً كاملاً وأنا أنتظر موعظتك الحسنة وأقضي هذا العام في العبودية والرق، وكان بإمكانك أن تقول كلمتك بعد يوم أو يومين من وعدك بالكلام، فتنقذني من الرق ومن عذاب الانتظار؟.
فقال الإمام: (يا بني ! لم أكن أملك ثمن عبد، وكان عليّ أن أقتصد من نفقاتي لأملك ما أشتري بع عبداً. ومضى عام حتى استطعت توفير المال اللازم لشراء عبد، فقصدت سوق النخاسين أمس، واشتريت من هناك عبداً، ثمّ أعتقته لوجه الله، وحينذاك وعظت الناس بما سمعت وسمع سيدك، فأعتقتك سيدك وأعتق غيره عبيدهم. ولو خاطبت الناس قبل أن أخاطب نفسي فأطبق (عملياً) على نفسي ما أطالب به غيري، لما كان لكلامي تأثير في السامعين، ولما أعتق أحد عبده).
إن الكلام لا يؤثر في الناس ما لم يمتلئ من نفس قائله، فيصبح عملاً ولا يبقى كلاماً.
الروابط المفضلة