ص (63 )

لمعات في الظلام:
وكان النور الضعيف الذي يتراءى في هذا الظلام المطبق من بعض الأديرة والكنائس أشبه بالحباحب الذي يضيء في ليلة شديدة الظلام ( ذباب يطير باللَّيل يضيء ذَنَبُه كأنَّه شررُ النَّار ) فلا يخترق الظلام، ولا ينير السبيل، وكان الذي يخرج في ارتياد العلم الصحيح، وانتجاع الدين الحق يهيم على وجهه في البلاد، ترفعه أرض وتخفضه أخرى، حتى يأوي إلى رجال شواذ في الأمم والبلاد، فيلجأ إليهم كما يلجأ الغريق إلى ألواح سفينة مكسرة، هشمها الطوفان.
يدل على ندرتهم خبر سلمان الفارسي أكبر الرواد الدينيين في القرن السادس الذي شرق وغرب في الفحص عنهم، ولم يزل يتنقل من الشام إلى الموصل، ومن الموصل إلى نُصيبين، ومن نصيبين إلى عمورية، ويوصي به بعضهم إلى بعض، حتى أتى على آخرهم فلم يجد لهم خامساً، وأدركه الإسلام في هذا الظلام
قال سلمان:
((لما قدمت الشام، قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف في الكنيسة! قال فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون

(1) تاريخ الطبري ج2 ص 133.
(1) تاريخ الطبري ج2 ص 133.


ص (64)
معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك،
_ قال: فادخل، فدخلت معه، قال فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء اكتنزه لنفسه، ولم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب وورِق"
_قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات فاجتمعت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه، ولم يعط المساكين منها شيئاً
_ قالوا: وما علمك بذلك؟ قال قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً.
_ قال: فلما رأوها، قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه ثم رجموه بالحجارة
ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، قال: يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه وأزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه
_قال: فأحببته حباً لم أحبه من قبل وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له يا فلان: إني كنت معك وأحببتك حباً لم أُحبه من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى من توصى بي، وما تأمرني؟
_ قال: يا بني والله ما اعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالحق به.
قال: فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل.
_
فقلت له: يا فلان إن فلاناً أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره. قال: فقال لي: أقم عندي، فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان، إن فلاناً أوصى بي إليك وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من الله عز وجل ما ترى، فإلى من توصى بي وما تأمرني؟ قال: يا بني والله ما أعلم رجلاً على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصيبين وهو فلان فالحق به.
فلما مات وغيب لحقت بصاحب نصيبين فجئته فأخبرته بخبري وما أمرني به صاحبي، قال فأقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه، فأقمت مع خير رجل، فو الله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضر قلت له: يا فلان إن فلاناً كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى
من توصى بي وما تأمرني؟ قال: أي بني




ص (65)


والله ما نعلم أحداً بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية فإنه بمثل ما نحن عليه، فإن أحببت فأته، قال: فإنه على أمرنا
قال فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم.
_ قال: واكتسبت كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حُضِر قلت له: يا فلان، إني كنت مع فلان، فأوصى بي فلان إلى فلان، وأوصى بي فلان إلى فلان، ثم أوصى بي فلان إليك، فإلى من توصى بي وما تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلم ما أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه
ولكنه قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل)) الخ (1) .
(1) رواه الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس عن سلمان ورواه الحاكم في مستدركه. والرواية لاتصال سندها وعدالة رواتها من أصح الوثائق التاريخية عن الجاهلية وحالتها الدينية.


بارك الله فيكم على طيب المتابعة و بارك الله فى اوقاتكم

وجزى الله خيرا من قرأ ونشر ،
وآخر دعوانا أن
الحمد لله رب
العالمين