من أجل تعظيم الله تعالى
تفسير سورة الفاتحة
من رسائل النور والظلال
خلاصة مختصرة لسورة
"الفاتحة "


الكلمة الرابعة : وهي (مالك يوم الدين)
ان اشارة مختصرة جدا ً الى ما فيها من حجة هي :
اولاً: ان جميع الدلائل المشيرة على الحشر والآخرة والشاهدة على حجة "وإليه المصير" في ختام القسم الاول من هذا الدرس، تشهد كذلك على الحقيقة الايمانية الواسعة التي تشير اليها "مالك يوم الدين".
ثانياً : كما ان ربوبية صانع هذا الكون ورحمته الواسعة وحكمته السرمدية، وكذا جماله وجلاله وكماله الازلي الابدي، وكذا صفاته الجليلة المطلقة ومئات من اسمائه الحسنى، تستدعي كلها الآخرة قطعاً - كما قيل في ختام الكلمة العاشرة - كذلك القرآن الكريم بالوف من آياته وبراهينه.. وكذا الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بمئات من معجزاته وحججه.. وكذا جميع الانبياء والمرسلين عليهم السلام.. وكذا الكتب السماوية والصحف المقدسة بدلائلها غير المحدودة، تشهد جميعاً على الآخرة.
وبعد، فمن لايؤمن بالحياة الباقية في الدار الآخرة انما يقذف نفسه في جهنم معنوية ينشؤها الكفر، فيقاسى العذاب دوماً، ولمّا يزل في الدنيا، حيث تنزل الازمنةُ الماضية جميعُها والمستقبلة والمخلوقات والكائنات بزوالها وفراقها مطر السوء على روحه وقلبه فتذيقه آلاماً لاحد لها واعذبة كعذاب جهنم قبل ان يدخلها في الاخرة. كما وضح ذلك في رسالة "مرشد الشباب".
ثالثاً : نشير برمز "يوم الدين" الى حجة عظيمة وقوية للحشر. ولكن حالة فجائية معينة سببت في تأخير تلك الحجة الى وقت آخر. وربما لم تبق حاجة اليها بعد؛ لأن رسائل النور قد اثبتت بمئات الحجج القوية القاطعة ان مجئ صبح الحشر وحلول ربيع النشور يقين كمجئ النهار عقب الليل ومجئ الربيع عقب الشتاء.


الكلمة الخامسة: وهي (إياك نعبد وإياك نستعين) .
قبل الاشارة الى ما فيها من حجة ورد الى القلب بيان سياحة خيالية ذات حقيقة بياناً موجزاً بناءً على إيضاح "المكتوب التاسع والعشرين" لها، وهي كالآتي:
بينما كنت أبحث عن معجزات القرآن، كما هو مبين في رسائل النور، ولاسيما في تفسير "إشارات الإعجاز" وفي رسالة "الرموز الثمانية". وحينما وجدت بضع معجزات حول الإخبار الغيبي في آية الختام لسورة الفتح؛ والمعجزة التاريخية في الآية الكريمة (اليوم ننجيك ببدنك) (يونس: 92) بل وجدت لمعات إعجاز متعددة في كثير من كلمات القرآن ونكات إعجازية دقيقة في بعض حروفه.. في هذه الاثناء وانا اقرأ سورة الفاتحة في الصلاة ورد الى قلبي سؤال؛ ليعلمني معجزة من معجزات "ن" التي في "نعبد. ونستعين".
والسؤال هو: لِمَ قال: "نعبد ..نستعين" بنون المتكلم مع الغير، ولم يقل "أعبد.. أستعين"؟
وعلى حين غرة فُتح امام خيالي ميدان سياحة واسعة من باب تلك الـ"ن". فعلمت بدرجة الشهود السر العظيم في صلاة الجماعة، وشاهدت منافعها الجليلة وعلمت يقيناً ان هذا الحرف الواحد معجزة بذاتها، وذلك :
عندما كنت أصلى في ذلك الوقت في جامع "بايزيد" واثناء قولي: "إياك نعبد وإياك نستعين" رأيت ان جماعة ذلك الجامع يؤيدون دعواي هذه بقولهم مثل ما أقول؛ ويشاركونني مشاركة تامة في دعواي هذه وفي دعائي الذي في "إهدنا" مصدّقين إياي.. في هذا الوقت بالذات رفع ستار من امام خيالي فرأيت كأن مساجد استانبول كلها قد تحولت الى مسجد "بايزيد" كبير وجميع المصلين فيها
يقولون مثلي: "إياك نعبد وإياك نستعين " مصدقين دعواي ومؤمّنين لدعائي. ومن خلال إتخاذهم صورة شفعاء لي، رفع ستار آخر امام خيالي، فرأيت ان العالم الاسلامي قد أتخذ صورة مسجد عظيم جداً واخذت مكة المكرمة والكعبة المشرّفة بمثابة محراب ذلك المسجد العظيم وقد يمّم جميع المصلين الصافين المتراصين وجوههم بشكل حلقات شطر ذلك المحراب المقدس وهم يقولون مثلي: "إياك نعبد وإياك نستعين. إهدنا.." وكل منهم يصدق الكل ويدعو بإسمهم، جاعلا جميع المصلين شفعاء له.
وحينما كنت أفكر أن طريقاً يسلكها جماعة عظيمة الى هذا الحد لاتكون طريقاً عوجاً قطعاً ولاتكون دعواها إلا صواباً، ولايُردُّ دعاءها بل تطرد شبهات الشيطان.. وإذ أنا أصدق منافع الصلاة العظيمة في جماعة تصديقاً شهودياً، رفع ستار آخر، ورأيت :
كأن الكون مسجد كبير وجميع طوائف المخلوقات منهمكة في صلاة جماعية كبرى، كل قد علم صلاته وتسبيحه، يؤدى نوعا ًً من صلاة خاصة به بلسان الحال. ايفاء ً لعبودية واسعة عظيمة جداًً إزاء ربوبية المعبود الجليل المحيطة. فيصدق كل منهم شهادة الجميع على التوحيد بحيث يحصل كل منهم على اثبات النتيجة نفسها. وإذ كنت اشاهد هذه الامور، رفع ستار آخر، ورأيت :
كما ان الكون الذي هو انسان كبير يقول بلسان الحال وبلسان الاستعداد والحاجة الفطرية لكثير من اجزائه، وبلسان المقال لذوي الشعور من موجوداته: "إياك نعبد وإياك نستعين" مظهرين عبوديّتهم لخالقهم ازاء ربوبيته الرحيمة، كذلك جسدى، هذا الكون الصغير، كجسد كل مصلّ ٍ معي في تلك الجماعة العظمى يقول بذراته وبقواه وبمشاعره ايضاً : "إياك نعبد وإياك نستعين" بلسان الطاعة والحاجة، ازاء ربوبية خالقه، منقاداً للأمر الآلهى مستسلماً لارادته سبحانه، ورأيت ان تلك الجماعة من الذرات والقوى والمشاعر تعرض في كل آن حاجتها الى عناية خالقها الجليل وتبسطها امام رحمته واعانته. وشاهدت باعجاب السر الرفيع للجماعة في الصلاة، وأبصرت المعجزة الجميلة لـ"ن" نعبد. واستودعت تلك السياحة الخيالية لدى باب "ن" الذي دخلتها منه. وحمدتُُ الله قائلاً: الحمد لله. وسعيت لاقول "إياك نعبد وإياك نستعين" بلسان تلك الجماعات الثلاث، اولئك الاصدقاء الكبار والصغار.
والآن انتهت المقدمة، ونرجع الى ما نحن بصدده. وهو اشارة مختصرة الى الحجة التى تشير اليها "إياك نعبد وإياك نستعين ".
أولاً: إننا نشاهد بأبصارنا فعالية وخلاقية مهيبتين دائمتين وفي أتم أنتظام وانسجام تجريان في الكون باسره ولاسيما على سطح الارض. ونشاهد ربوبية مطلقة رحيمة مدبّرة ضمن هذه الفعالية والخلاقية تستجيب لاستعانات واستغاثات تنطلق مما لايحد من ذوي الحياة غير المحدودة واستمداداتها ودعواتها الفعلية والحالية والقولية استجابة تتسم بكمال الحكمة ومنتهى العناية. ونرى تجليات الوهية مطلقة ومعبودية عامة ضمن هذه الربوبته وضمن مظاهر استجابة كل كائن حي على حدة استجابة فعلية لمقابلة الوف الانماط من العبادات الفطرية والاختيارية التي تؤديها جميع المخلوقات ولاسيما ذوي الحياة وبخاصة طوائف الانسان، يراها العقل السليم ويبصرها الايمان. كما تخبر عنها جميع الكتب السماوية والانبياء الكرام عليهم السلام .
ثانياً: ان انشغال كل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة في المقدمة، بما ترمز اليها "ن" نعبد؛ انشغالها جميعاً ومعاً بعبادات فطرية واختيارية وباشكال مختلفة تدل بالبداهة على أنها مقابلةٌ شاكرة ازاء ألوهية معبودة وشهادات قاطعة لاحد لها على وجود المعبود المقدس .
وان لكل جماعة من الجماعات الثلاث المذكورة ولكل طائفة من طوائفها، ولكل فرد من افرادها ابتداءً من مجموع الكون كله الى جماعة ذرات جسد واحد، إستعانة فعلية وحالية، ولكل منها دعاء خاص بها كما يرمز الى ذلك "ن" نستعين. فالسعي لإعانة كل منها واغاثتها واستجابة دعائها، شهادة صادقة لاتقبل الشبهة قطعاً على مدبّر رؤوف رحيم .
فمثلاًً :مثلما ذكرت "الكلمة الثالثة والعشرون": ان استجابة الانواع الثلاثة للادعية التي تدعو بها جميع المخلوقات على الارض كافةً، استجابة خارقة جداً ومن حيث لايحتسب، تشهد شهادة قاطعة على ربّ رحيم مجيب...
نعم، كما اننا نشاهد بابصارنا استجابة دعاء كل نواة وكل بذرة تسأل خالقها بلسان الاستعداد لتصبح شجرة وسنبلة. كذلك نشاهد ارسال الارزاق الى جميع
الحيوانات بما تقصر ايديها عنها، واعطائها ما يلزم حياتها، واستجابة مطاليبها التي هي خارجة عن طوقها؛ والتي تسألها من واحد احد بلسان الحاجة الفطرية .
فهذه الاستجابات والامدادات تشهد شهادة صادقة على خالق كريم يستجيب لجميع تلك الادعية المنطلقة بلسان الحاجة الفطرية، كما نشاهدها بأم أعيننا؛ ويدفع مخلوقات عجيبة لاشعور لها لإمداد تلك الحيوانات في انسب وقت و في اتم حكمة.
وهكذا فقياساً على هذين القسمين؛ فإن استجابة جميع انواع الادعية التي تُسأل بلسان المقال؛ ولاسيما ادعية الانبياء عليهم السلام والخواص، استجابة خارقة، تشهد على حجة الوحدانية التي في "إياك نستعين".


الكلمة السادسة: وهي (اهدنا الصراط المستقيم).
ان اشارة في منتهى الاختصار الى حجتها هي :
كما ان اقصر الطرق المؤدية من مكان الى آخر هي الطريق المستقيم، وان اقصر الخطوط الممتدة بين نقطة واخرى بعيدة عنها هو الخط المستقيم؛ كذلك ان اصوب طريق في المعنويات وفي الطرق المعنوية وفي المسالك القلبية واكثرها استقامة هي اقصرها وايسرها. فمثلاً: ان جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور بين طريق الايمان والكفر تبين بياناً قاطعاً ان طريق الايمان والتوحيد اقصر الطرق واصوبها وايسرها واكثرها استقامة، بينما طرق الكفر والانكار طويلة جداً وذات مشكلات ومخاطر. فلاشك ان هذا الكون الذي يساق في طريق ذات استقامة وحكمة وهي اقصر الطرق واسهلها في كل شئ، لايمكن ان تكون فيه حقيقةالشرك والكفر. بينما حقائق الايمان والتوحيد واجبة وضرورية في هذا الكون ضرورة الشمس فيه.
وكذا فان ايسر الطرق في الاخلاق الانسانية وانفعها واقصرها واسلمها هي في الصراط المستقيم وفي الاستقامة.
فمثلاً: اذا فقدت القوة العقلية الحد الوسط، وهو الحكمة والاستقامة، التي هي سهلة نافعة، تهوى بالافراط والتفريط في خبٍ مضر وبلاهةٍ ذات بلية، فتعاني المهالك في طرقها الطويلة. وان لم تسلك القوة الغضبية طريق الشجاعة التي هي حد الاستقامة، هوت بالافراط في تهور وتجبّر ذي اضرار بالغة وظلم شنيع، وبالتفريط الى كثير من التخوف والتجبن المذلّ المؤلم، فتعاني عذاباً وجدانياً دائماً جزاءً لما ارتكبت من خطإ فقدها حد الاستقامة. وما في الانسان من قوة شهوية إذا ضيعت طريق الاستقامة السليمة والعفة تهوى بالافراط في الفجور والفحش ذات المصائب، وبالتفريط في الخمود، أي الحرمان من أذواق النعم ولذائذها؛ فتعاني آلام ذلك المرض المعنوي.
وهكذا قياساً على ما ذكر؛ فان الاستقامة هي انفع طريق واسهلها واقصرها من بين جميع الطرق المسلوكة في حياة الانسان الشخصية والاجتماعية. وإذا مافقد الانسان الصراط المستقيم فان تلك الطرق تكون طويلة جداً وذات بلايا كثيرة ومصائب واضرار.
بمعنى ان " إهدنا الصراط المستقيم" دعاء جامع وعبودية واسعة ؛ كما انها اشارة الى حجة في التوحيد والى درس في الحكمة وتعليم الاخلاق.