تابـــــع لموضوع اتباع منهج أهل السنة والجماعة فرض عين على كل مسلم(1)


وهنالك أدلة أخرى تدل على هذا الأمر تضمناً منها :

أولاً : المدح المطلق ، قال تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29) الفتح

وقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) . (100) التوبة



وغيرها من الآيات الدالة على مدح الله المطلق لأصحاب محمد رسول الله ، مما يدلنا ذلك على موافقة الصحابة للحق الذي يريده الله سبحانه ، وإلا لما استحقوا هذا المدح .

ثانياً : الثناء على مواقفهم وأعمالهم ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) . (23) الأحزاب

وقوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ) .(10) الفتح

ثالثاً : الدلالة الصريحة على فضلهم وعدم مساواة الآخرين لهم ، كما في قوله تعالى : (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) . (10)الحديد

وقوله تعالى الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) . (20)التوبة

وإن كانت الآية عامة فيمن اتصف بتلك الصفات إلا أن دخول الصحابة في هذه الآية من باب أولى .

ومما ذكرنا من الآيات الكريمات المشتملة على ثناء الله سبحانه على صحابة رسوله العام الشامل لإيمانهم ، وأعمالهم ، وأخلاقهم ، لدليل على صحة معتقدهم ومنهجهم ، ولولا موافقتهم للحق واتباعهم له لما استحقوا كل هذا الفضل والثناء ، وقد جاءت السنة صريحة ببيان فضل الصحابة وعدم مساواة الناس لهم بالفضل والأجر كما في الحديث المتفق على صحته عند أئمة الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : (لا تسبوا أصحابِي فوالذي نفسي بِيده لو أَن أحدكم أَنفق مثل أحد ذهبًا ما أَدرك مد أَحدهم ولا نصيفه ) .

فهذه الأدلة قاطعة بوجوب اتباع سبيل المؤمنين ، وهو سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهذا المنهج هو المنهج الذي عرف بمنهج أهل السنة والجماعة التي يجب على كل مسلم أن يكون فيه ، وهذه التسمية ليست تسمية محدثة بل هي تسمية عرفت زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما جاء ذلك في تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنمها لقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) . (106) آل عمران قال : تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل الفرقة والضلالة وقد نقل ابن كثير رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسوّد وجوه أهل البدعة والفرقة، قاله ابن عباس رضي اللّه عنهما.

وهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صحيح ، وقد درج العلماء قديماً وحديثاً على تسمية أهل الحق بأهل السنة والجماعة .

وتقوم هذه التسمية على أصلين عظيمين :

أولاً : أهل السنة ، وهذا من باب المضاف والمضاف إليه ، فأهل السنة إذن هم اتباعها الذين لا يخرجون عنها ، فلا يكون أهل الحق إلا متبعين للسنة ، وعليه فكل مخالف للسنة لا يعتبر من أهل الحق ، فاتباع السنة ضابط من الضوابط التي يميز بها أهل الحق عن غيرهم .

ثانياً : الجماعة ، فقد جاء وصف أهل الحق بأنهم أهل جماعة إذ عطف لفظ الجماعة على لفظ أهل السنة ، فكما أن أهل الحق معروفون باتباعهم للسنة ، كذلك هم معروفون باجتماعهم عليها ، فلا يكون أهل السنة متفرقين بل مجتمعين ، وعليه فهذان وصفان ثابتان لأهل الحق ، وهما اتباع السنة والاجتماع عليها ،وأهل الحق متصفون بهاتين الصفتين ، فإن فقدوا إحدى الصفتين خرجوا عن كونهم أهل سنة وجماعة ، وهذان الأصلان قائمان على أدلة قطعية لا يخالف فيها مسلم ، وإن كان كثير من المسلمين يخالفون هذين الأصلين بأقوالهم وأفعالهم إما جهلاً ، وإما اتباعاً للهوى عافانا الله سبحانه .

1 : الأدلة على وجوب الاتباع :

الأدلة على وجوب الاتباع كثيرة معلومة ، بل هي من لوازم التوحيد ، فكلمة التوحيد مشتملة على حقيقتين ، الأولى تفريد الله سبحانه بالعبادة ، فلا معبود بحق سواه ، الثاني ، تفريد الرسول عليه الصلاة والسلام بالاتباع ، فلا متبوع بحق إلا الرسول .

أدلة وجوب اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن :

قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) . (32) آل عمران

وما يستفاد من هاتين الآيتين الكريمتين :

1 : أن محبة الله سبحانه لا تكون إلا من خلال متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لتضمنها للشرط ، أي إن كان حبكم لله حباً صادقاً فإنه يحملكم على اتباع النبي ، وما يفهم في مقابل هذا اللفظ ، أن عدم متابعتكم للرسول دليل على عدم محبتكم لله سبحانه .

2 : وجوب اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام لحتمية وجوب محبة الله سبحانه ، فحب الله من الإيمان الواجب الذي ينتفي الإيمان بانتفائه قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ). (165) البقرة

واتخاذ الأنداد من دون الله ومحبتهم مع الله شرك ، فكيف إذا خلا قلب العبد من محبة الله ؟ وبما أن محبة الله لا تتحقق إلا بمتابعة الرسول كان اتباعه واجباً .

3 : محبة الله لمن يتبع رسوله عليه الصلاة والسلام ، إذ علق الله سبحانه وتعالى محبته للعباد باتباعهم للرسول ،وحب الله دليل على المدح المتضمن للوجوب ، أي يجب على المسلم أن يسلك السبل التي يتوصل من خلالها إلى حب الله له ، ومن أعظم هذه السبل متابعة الرسول مما دلنا ذلك على الوجوب .

4 : ما تضمنته الآية الكريمة من كون التولي عن طاعة الله والرسول من صفات الكفر التي لا يحبها الله سبحانه ، ولا شك بأن أهل الحق لا يتصفون بصفات يبغضها الله سبحانه ويذم عليها .

دليل آخر على وجوب الاتباع قال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) . (63)النور

وهذه الآية الكريمة اشتملت على تحذير شديد لمن خالف أمر الرسول عليه الصلاة والسلام ، بل جاءت نتائج المخالفة واضحة وهي إحدى أمرين : ( أن تصيبهم فتنة ) أو : ( يصيبهم عذاب أليم ) . وهذا التحذير المتضمن للوعيد الشديد الدال على الذم والتحريم لدليل صريح على وجوب متابعة الرسول في كل ما أمر به ونهى عنه وفق ما هو مقرر عند العلماء .

دليل آخر : قال تعالى : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) . (7) الحشر

وهذه الآية الكريمة دالة على وجوب متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام في كل شيء إذ – ما – اسم موصول دال على العموم ، مما يفهم من ذلك أن الرسول معصوم بكل ما يقوم به من أعمال تعبدية بدلالة إطلاق المتابعة في الأمر والنهي ، وإلا لما جاء الأمر بوجوب المتابعة بعموم ، وعليه يكون الأمر في هذه الآية الكريمة من صيغ الأمر واجب الاتباع .


أدلة من السنة الصحيحة على وجوب الاتباع :

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) . رواه البخاري.

فهذا الحديث صريح الدلالة على وجوب متابعة الرسول في ما أمر به ، ونهى عنه ، إذ علق دخول الجنة على متابعته ، فكل من اتبعه فهو من أهل النجاة ، وعليه كل من خالفه فهو من أهل الهلاك ، ولا أدل من هذا السياق على فرضية اتباع الرسول .

حديث آخر : أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام قال : ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) .

وهذا الحديث الصحيح يربط ما بين طاعة الله سبحانه ، وطاعة رسوله ، ثم يرجع الطاعتين إلى طاعة واحدة ، وهي طاعة الله سبحانه وتعالى ، ولا خلاف في وجوب طاعة الله سبحانه .

وإن كانت هذه الأدلة بظاهرها تدل على وجب اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ، فهنالك أدلة آخرى تدل على حرمة مخالفته ومغايرة سبيله منها ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) . والإحداث في الدين هو كل عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه عن غير طريق الرسول إما أصلاً أو كيفاً.

وكذلك ما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي كان يقول في خطبة يوم الجمعة : ( أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ) .

والتحذير من المحدثات ما هو إلا إلزام باتباع الرسول بكل ما جاءنا به ، وهذا ما كان ظاهراً في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، والأمر في ذلك أوضح من أن يستدل عليه ، وما ينبغي التنبيه إليه هو أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانت متابعتهم للرسول عليه الصلاة والسلام أبرز أعمالهم التي أثنى الله عليهم لأجلها إذ قال سبحانه : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) . (23)الأحزاب

فالصحابة رضي الله تعالى عنهم عرفوا باتباعهم الحقيقي للرسول عليه الصلاة والسلام فقد أخذوا أحكام الدين عنه دون أن يزيدوا أو ينقصوا فيه ، وهذا سبب فلاحهم ورضى الله سبحانه عنهم ، والشاهد في الآية الكريمة قوله تعالى : ( وما بدلوا تبديلاً ) فالصحابة رضي الله عنهم لم يبدلوا ولم يحرفوا إنما أخذوا الدين وفق ما جاءهم به النبي ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن الإحداث في الدين من أبرز ما يرتب على المسلم حرمان الثواب والنجاة يوم القيامة قال : ( إني فرطكم على الحوض انتظر من يرد إليّ فوالله ليقتطعن دوني رجال فلأ قولن : أي رب مني ومن أمتي فيقول إنك لا تدري ما عملوا بعدك مازالوا يرجعون على أعقابهم ) . أخرجه مسلم .

ووجوب الاتباع ، وحرمة الابتداع قاعدة عامة من قواعد ديننا الحنيف ، بل إن العمل لا يقبل من أي عامل إلا من خلال الصحة والإخلاص لقوله تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) . (110) الكهف ،وأهل السنة هم أهل اتباع ، لذا سموا بأهل السنة ، أي بسبب اتباعهم للسنة وعدم مخالفتهم لها ، سموا بذلك ، أي بأهل السنة ، فلا يكون أهل الحق إلا متبعين للسنة الصحيحة .

2 : الأدلة على وجوب الاجتماع :

سبق الذكر بأن أهل السنة والجماعة يتصفون بصفتين أساسيتين لا تنفصل إحدهما عن الأخرى وهما الأولى : الاتباع ،ومضى القول فيه ، الثانية : الاجتماع ، وهي صفة لازمة لأهل الحق ، فأهل الحق من صفاتهم اللازمة اجتماعهم على الحق ، وعدم تفرقهم في الدين وقد جاءت الأدلة القاطعة على ذلك

الأدلة من القرآن :

منها قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . (103)آل عمران

وقوله تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (105)آل عمران

وقوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ) . (4) الصف

فهذه الآيات دليل واضح على وجوب الاجتماع وحرمة الافتراق ، وهذا ما تجسد في الصحابة رضي الله تعالى عنهم في عهد النبي ونزل القرآن مثبتاً له ، واصفاً المؤمنين بأعلى درجات الاجتماع والألفة من ذلك قوله تعالى : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29)الفتح . وقوله سبحانه : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) . (63)الأنفال

فالله سبحانه يصف المؤمنين بأنهم متحابون متلاحمون متعاضدون ، وهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون كما جاء في الحديث عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . متفق عليه . وكل هذه المعاني تدل على اجتماع المسلمين وعدم تفرقهم على خلاف واقعهم في هذا الزمان ، وهذا خلاف الحق الذي يجب أن يكون المسلمون عليه ،فالمسلمون مطلوب منهم أن يجتمعوا على الحق ، واجتماعهم على الحق دليل واضح على موافقتهم له ، على خلاف تفرقهم فهو دليل بعدهم عن المنهج الحق الذي عليه أهل الحق ، أهل السنة والجماعة قال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) . (2) المائدة

وهذا خطاب عام من الله سبحانه لعباده المؤمنين ، يأمرهم من خلاله بالتعاون على البر والتقوى ،وينهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان ، وهو أمر يدل على الوجوب لترتب الطلب والتحذير ، وهذا مسألة لا يختلف فيها المسلمون نظرياً ، بل الخلاف فيها عملياً ، أي من حيث الحكم فكل المسلمين متفقون على وجوب التعاون ، أما من حيث التطبيق - فالله المستعان –

الأدلة من السنة :

ومن أدلة السنة على وجوب الاجتماع قوله : (عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة ) . رواه أحمد الترمذي، وقال: حديث حسن غريب.

وورد في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) . رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: هذا حديث صدوق رواته.

و في حديث حذيفة بن اليمان الشهير في الصحيحين، ومطلعه: كان الناس يسألون رسول الله عليه الصلاة والسلام عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني إلى قوله : ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ) .

وهذه الأحاديث مبينة لوجوب اجتماع المسلمين ،وهي مسألة أصلية يقوم عليها ديننا الحنيف ، لذا شدد الإسلام على كل ما يحول دون الاجتماع كالتفرق والاختلاف قال تعالى : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . (105)آل عمران

ومن أدلة السنة على حرمة التفرق والاختلاف ما رواه أبو داود وابن ماجه عن معاوية رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة ).

وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) .

ومن منطلق الحفاظ على وحدة الأمة أوجب الله سبحانه تنصيب إمام واحد للمسلمين في شتى بقاع الأرض وشدد على الخروج عليه فقد جاء في الحديث الذي رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنَّه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت، إلا مات مِيتةً جاهلية ) .

وما رواه مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخُدري عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ) . وروى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله يقول : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) .وروى مسلم أيضاً عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي ، قال: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ) .

ما يستفاد من عموم الأدلة :

1 : أن المسلمين أمة واحدة ، متآلفة متراحمة .

2 : أن وحدة الأمة واجبة ، ويكون ذلك ضمن جماعة واحدة تحت راية واحدة ،بإمرة أمير واحد .

3 : أن كل ما يحول دون تحقق هذا الأمر يعتبر حراماً ومنه التفرق والاختلاف ومفارقة الجماعة .

4 : أن كل من فارق الجماعة يعتبر آثماً يجازى على فعله أسوء الجزاء .


ويستدل بعموم الأدلة على أن أهل الحق مجتمعين غير متفرقين ، وبهذا أخي الحبيب تعلم أن مصطلح أهل السنة والجماعة ليس مصطلحاً محدثاً ، بل هو مصطلح موجود معروف منذ زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وأنه دال على أصلين يعرف بهما أهل الحق من غيرهم ، وهما الاتباع والاجتماع ، وكل جماعة خرجت عن ذلك لا تعتبر من أهل السنة والجماعة التي يجب على كل مسلم أن يكون فيها .

حقيقتان تقومان على هذين الأصلين :

لقد عرفنا فيما سبق أن أهل السنة والجماعة ، أهل اتباع واجتماع ، وأن هاتين الصفتين من أبرز ما يتميز بهما أهل الحق عن غيرهم ، إلا أن في الأمة التباسات كثيرة تحول دون الوصول إلى الجماعة الحق نظراً لكثرة وقوع الخلاف فيها ، فما من فرقة إلا وتدعي أنها على الحق المبين ، وأنها الجماعة التي يجب على المسلمين أن يكونوا فيها أو يعملوا معها ، وأن من خالفها يعتبر آثما مخالفاً للحق المبين ، وما من فرقة من هذه الفرق إلا وتأتي بأدلة كثيرة على صحة مذهبها وبطلان من يخالفها ، مما أوقع كثيراً من الباحثين عن الحق في حيص بيص وأصبح الحليم فيهم حيراناً مما يتعين علينا بيان ذلك بياناً لا نبقي معه أدنى ريب لمن يريد الحق ، ولا يزيد الظالمين إلا خسارة .
وهذا البيان قائم على الأصلين الذين يميزان سبيل أهل السنة عن غيره :

1 : الاتباع : والمقصود بالاتباع ، اتباع سبيل المؤمنين ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، ولا يكون ذلك إلا من خلال ما أجمعوا عليه ، لا فيما اختلفوا فيه ،فالمقصود بالمتابعة متابعة الرسول فيما كان دليله دليلاً صريحاً ،أما ما كان دليله محتملاً غير مخالف لأصول الشريعة ،فهو واقع في دائرة الاجتهاد التي لا يعاب الناس عليه ، وعليه يجب على المسلم أن يكون متبعاً لما قام إجماع الأمة عليه ، فإن خالف إجماع الأمة فهو أحد الضالين الذين يعملون على إخراج الأمة عن سبيلها القويم ، وذلك لقوله تعالى : (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً ) . (115) النساء

وقد مضى القول بأن المقصود بسبيل المؤمنين ، هو سبيل الصحابة رضي الله عنهم ،وهذا ما دلت عليه الأدلة القاطعة ، فكل من خالف سبيل الصحابة يعتبر مبتدعاً كالفرق الهالكة التي أصل هلاكها نابع من مخالفتها لسبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم في العقيدة أو المنهاج ، فكل فكر لم يعرف في زمن الصحابة ، فهو فكر أجنبي عن المسلمين إلا أن يكون عليه دليل من الكتاب والسنة ، ومن الأفكار الدخيلة على الإسلام ما روج إليه أهل الكلام واعتبروه من عقائدهم ، كالقول بخلق القرآن ، ونفي صفات الله سبحانه أو تشبيهها ، والقول بعدم الإيمان بخبر الواحد ، وبوحدة الوجود ، وغيرها من الأفكار الكثيرة التي لم تعرف في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، فإن عدم طرق الصحابة لهذه المواضيع وعدم خوضهم فيها وهم أصحاب الاتباع الحق، لدليل واضح على خروج أصحاب هذه الأقوال عن الاتباع الذي هو دليل على صحة المعتقد والمنهج .

2 : الاجتماع : الاجتماع هو الأصل الثاني التي يستدل من خلاله على معرفة أهل الحق من غيرهم ، فكل قول أو عمل يؤدي إلى تفرق الأمة يعتبر محرماً شرعاً لحيلولته دون اجتماع الأمة الواجب ، وهذا ما يقع فيه كثير من المسلمين ، فإننا نرى حتى أصحاب الدعوة إلى وحدة المسلمين متفرقين متعادين ، وهذا من التناقضات الظاهرة ، إذ كيف يدعو إلى وحدة المسلمين من هو أحد أسباب تفرقهم؟ ومرجع هذا التناقض إلى الخروج عن المنهج الحق ، فإن هؤلاء المفرقين للأمة الداعين إلى وحدتها ، إنما فرقوا الأمة بسبب دعوتهم للناس من أجل أن يتبنوا ما تبنوه هم من خلال الاجتهادات الخاصة ، وإلا فمن ضرورات توحيد الأمة أن يكون الداعون إلى ذلك قائمين على أسس مجمّعة غير مفرقة ، وهذا لا يكون إلا من خلال دعوة الناس إلى التمسك بالأصول التي لا يختلف فيها ، والإعراض عن كل ما هو اجتهادي ، لأن الأمة لن تجتمع على مذهب زيد وعمر ، ولكنها تجتمع على الأصول المتفق عليها وهي ما تكون أدلتها أدلة مقطوع بها ، ولا يتحقق ذلك إلا باتباع الأصول دون الفروع وبهذا جاءت الأدلة من الكتاب والسنة قال تعالى : (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) . (7)آل عمران

يتبين من خلال هذا النص القرآني ، أن آيات القرآن الكريم تنقسم إلى قسمين ،
القسم الأول : الآيات المحكمة ،
القسم الثاني : الآيات المتشابهة ،
فكلا الآيات المحكمة والمتشابهة من القرآن الكريم ، وكلا المتبعين لهما متبعون لآيات القرآن الكريم ، إلا أن المتبع للمتشابه من القرآن مائل عن الحق متبع للهوى ، على خلاف المتبع للمحكم ، فهو متبع للحق موافق له ، والفرق بين القسمين من الآيات ، أن القسم الأول وهو المحكم ، لا يختلف الناس فيه ، وعليه لا يتفرقون ، على خلاف القسم الثاني ، فإنه يكون سبباً لتفرق الأمة ، ويتفق مع هذا النص ما جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : ( إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ـ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ـ ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .متفق عليه.

والحديث بمدلوله العام ، يدل على أن الواجب على المسلم اتباع الحلال البين ، وهو الواضح الذي لا شبهة فيه ، وهو الذي لا يختلف على حله المسلمون ، وكذلك الواجب عليه اجتناب الحرام البين ، وهو الذي لا يختلف على تحريمه المسلمون ، وقد بين الرسول أن بين الحلال البين ، والحرام البين ، أمور مشتبه بها ، أي ليست حلالاً بيناً ، أو حراماً بيناً ، فهي إذن تحتمل الوجهين ،وهذا القسم الذي يجب على المسلمين أن يتقوه ، وبناء على هذا الأصل فإن المسلمين لا يختلفون ، وبهذا يجتمعون ، أما إذا وقعوا في المتشابهات ، ومنها ما وقع الخلاف فيه بين المسلمين ، فإنهم يقعون في الحرام البين الذي جاء النص دالاً عليه ، ولا يقال في هذا الموضع : إنه لا يجوز العمل بما اختلف فيه أهل العلم من أحكام شرعية مبناها الاجتهاد ، فهنالك من الناس من يعلم حقيقة المسائل التي بين الحلال البين ، والحرام البين كما بين ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله : ( لا يعلمها كثير من الناس ) فقوله لا يعلمها كثير من الناس ، دليل واضح على أن بعض الناس يعلمون ما تشابه منه إن كان متعلقه بالأحكام الشرعية التي يتوصل إليها من خلال التتبع والاستقراء ، وقد اختلف أهل العلم في مسألة تقليد عالم فيما توصل إليه من خلال اجتهاده ، ولكن ما اتفق عليه أهل العلم المعتبرون خلفاً عن سلف ، هو حرمة اتباع عالم بعينه يقوم على شخصه الولاء والبراء ، أو الاعتقاد أنه على الحق المبين دون غيره من العلماء، وهذا عين ما نراه في مجتمعنا اليوم ، فكثير من المسلمين يعتقدون أن الحلال والحرام راجع إلى أقوال علمائهم ، فما قال علماؤهم قالوا به ، وما توقفوا عنه ، توقفوا عنه ، إلا فيما يتعلق بمسائل لا تعارض ما هم عليه ، وهذا هو ما حرمه الإسلام وعاب عليه ، إذ جعل أولئك مصادر تشريعاتهم أقوال علمائهم التي بنوها على غلبة الظن ، وفي كثير من الأحيان تكون مخالفة لما أجمع عليه أهل السنة والجماعة كما تقرر ذلك آنفاً ، قال تعالى : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) . (31) التوبة

وقد جاء في تفسير هذه الآية ما جاء عن عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام] له ألم يحلوا لكم الحرام فأطعتموهم . قال عدي رضي الله عنه: بلى، قال : وحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم . قال: بلى، قال صلى الله عليه وسلم فتلك عبادتكم إياهم ) . رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه .

وهكذا المسلمون إذا جعلوا مرجع تحليلهم وتحريمهم إلى أقوال علمائهم ، وأقاموا الولاء والبراء فيهم ، وقعوا فيما وقع فيه بنو إسرائيل ، فسلكوا بذلك سبيل المغضوب عليهم والضالين ، ولن يكون في حال من الأحوال أهل الحق مشابهين لأهل الباطل في أي عمل قام الدليل على النهي عنه وورد الذم عليه ، ومن خلال هذين الأصلين الاتباع ، والمقصود به اتباع سبيل المؤمنين – الصحابة ومن تبعهم بإحسان – فيما أجمعوا عليه ، والاجتماع ، وهو اجتماع أهل الحق على إقامة هذا الدين نميز بين أهل الاتباع ، وأهل الابتداع ، وهذا ملخص ما دل عليه مصطلح –أهل السنة والجماعة – فأهل السنة هم أهل الاتباع القائم على الإجماع ،المجتمعون عليه .


فوائد لا بد من ذكرها :

أولاً : إن حكم اجتماع المسلمين يكون على المسائل التي دل عليها النص الصريح ، أو التي قام الإجماع عليها ، أما ما كان ظنياً ،فيجوز الاختلاف فيه شريطة أن لا يقوم الولاء والبراء فيه ، أو يؤدي إلى تفريق الأمة ، وقد دلت على ذلك النصوص الشرعية لما جاء في الحديث عن النَّزال بن سبرة قال سمعت عبد الله بن مسعود قال: سمعت رجلا قرأ آية سمعت من النبي خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : ( كلاكما محسن فاقرآ ) قال شعبة – أحد رواة الحديث – أكبر علمي أن النبي قال : (فإن من كان قبلكم اختلفوا فأُهلكوا ) . رواه البخاري

وكذلك حديث ‏عن ‏ ‏ابن عمر ‏ ‏رضي الله عنهما ‏ ‏قال ‏ قال النبي ‏ عليه الصلاة والسلام‏ ‏ ‏يوم الأحزاب : (‏ ‏لا يصلين أحد العصر إلا في ‏ ‏بني قريظة ‏ ‏فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فلم ‏ ‏يعنف ‏ ‏واحدا منهم). رواه البخاري ، وعليه لا يكون قولنا متعلقاً بالمسائل الاجتهادية المحتملة القائمة على النصوص الشرعية ، شريطة أن لا تكون مخالفة نصاً صريحاً ، أو إجماعاً معتبراً ، ولا يكون الولاء والبراء قائماً عليها كما ذكر ، فهذه أمور تحول دون اجتماع الأمة ، وقد تجلى الاجتماع في أعلى صوره في واقع الصحابة رضي الله تعالى عنهم رغم اختلافاتهم المتعددة في كثير من المسائل الفقهية وغيرها ، ومع ذلك لم يؤد هذا الاختلاف إلى التفرق والتباغض بينهم بل كانوا إخواناً بكل ما تحمل الكلمة من معنى قال تعالى : ( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . (29)الفتح

ثانياً : إن الله سبحانه حرم على المسلمين ،التفرق والاختلاف ، وكل ما يؤدي إلى التفرق والاختلاف فهو محرم ، من ذلك التحزب ، فهو من أبرز ما يفرق بين الأمة الواحدة ، وقد جاء الأمر باعتزال الفرق كلها كما في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه قال : ( كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى ، فقلت : يا رسول الله إنا كنا فى جاهلية وشر وجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : " نعم " ، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : " نعم وفيه دخن " ، قلت : وما دخنه ؟ قال : " قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر . " ، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر قال : " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها . " ، قلت : يا رسول الله صفهم لنا ، قال : " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا . " قلت : فما تأمرنى إن أدركنى ذلك ؟ قال : " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم . " ، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) .رواه البخاري

فهذا الحديث يدل بوضوح على وجوب التمسك بجماعة المسلمين وإمامهم ، واعتزال الفرق كلها في الحالة التي يكون المسلمون فيها من غير إمام أو جماعة ، ولكن الحديث لا يدل على اعتزال أهل الحق ، بل يدل على اعتزال
الفرق المخالفة لأهل الحق ، ويدلنا على ذلك أمران :

أ : أن سياق الحديث يفصل بين الجماعة والإمام فقول حذيفة : ( فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ) يتبين منه أن الجماعة قد تكون من غير إمام ، أو الإمام من غير جماعة ، وإن كان الثاني بعيداً لقيام الأدلة على خلافه ، إلا أنه قد تنفصل الجماعة عن الإمام حتى في وجوده ، كأن يكون الإمام مخالفاً لسبيل المؤمنين ، متبعاً للبدع والضلالة ، وقد وقع هذا في المسلمين على الحقيقة ،على خلاف الاحتمال الأول فهو محتمل الوقوع ، أي قد توجد الجماعة ولا يوجد الإمام ، كما هو الحال في هذا الزمان .

ب : قيام الأدلة على بقاء أهل الحق الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة كما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) .

ومن المعلوم ضرورة أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينهى عن اعتزال هذه الطائفة الناجية ، بل ينهى عن اتباع من يخالفها ، وبما أن الحديث صريح الدلالة ببقاء هذه الجماعة إلى أن يرث الله سبحانه الأرض وما عليها ،فيكون العمل ضمن هذه الطائفة من أفضل العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه ، على خلاف العمل في الفرق المخالفة لها ، فهو من أكبر الكبائر ،

وعليه تعلم أن المخالفين لهذه الطائفة المدعين للحق المبين ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :

1 : المخالفون لها عقيدة ومنهاجاً : وهم الذين أعمى الله قلوبهم فضلّوا عن الصراط ، ومن أولئك الفرق المعادية لها الداعية إلى غير سبيلها .

2 : المعتزلون لها : وهؤلاء الذين آثروا العزلة على العمل خوفاً من الفتنة ، وإذ بهم قد وقعوا فيما هو أشد من ذلك ،وقعوا في التخاذل عن نصرة أهل الحق والعمل معهم ، فلا هم أظهروا الحق ، ولا ذادوا عنه ، بل دفنوا أنفسهم في العزلة أحياء ، وارتضوا بالذل والهوان ، وما حركهم إيمانهم للدفاع عن عقيدتهم ، وأمتهم التي هي أحوج ما تكون لكل مسلم يقودها إلى الصراط الحق المبين . وهؤلاء ممن رفع شعاره عالياً : اللهم نفسي ،اللهم نفسي ، فاعتزل الفرقة الناجية ، بل قد يكون مثبطاً عنها بتخاذله المتولد عن يأسه وجبنه عافانا الله سبحانه من ذلك .

3 : المدعون أنهم من الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة ، الرافعون شعار اتباع السلف الصالح ، وهم الذين تحزبوا أشد من تحزب المتحزبين ، وذلك من خلال قيامهم على قواعد هشة، هم أول من ينتقدها ، وهو الاتباع المذموم المتجسد بمعرفة الحق بالرجال ، فهم يقيمون ولاءهم وبراءهم في مشايخهم ، ولا يعرفون الحق إلا من أقوالهم ،أضف إلى ذلك تخذيلهم للعاملين واتهامهم لهم ، والدعوة إلى تثبيت عروش الظلمة والذود عنهم بكل ما أوتوا من قوة ، فهؤلاء من أبعد الناس عن المنهج الحق ، وقد بينا حقيقتهم برسالتنا ( احذروا أدعياء السلفية ) فلتراجع .


ثالثاً : إن ما يتميز به أهل السنة والجماعة عن غيرهم متابعة رسول الله ، واجتماعهم على المتابعة ، فهم مجتمعون غير متفرقين ، فالتفرق دليل عدم متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأهل الحق ما وافقوا الحق إلا لحصول المتابعة ، ومن المتابعة الاجتماع ، وهذا ما دلت عليه النصوص الثابتة المبينة آنفاً ، فأهل السنة متعاضدون متراحمون ، مثلهم بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، ولا يكون هذا الوصف مع التفرق والاختلاف ، فاجتماع المؤمنين من أبرز الأدلة الدالة على صدقهم ، فلا يكون أهل الحق إلا مجتمعين ، وضابط الاجتماع عدم الاختلاف المؤدي إلى الفشل كما قال سبحانه : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) . (46) الأنفال

لذا حرص الإسلام على عدم تفرق الأمة حفاظاً على قوتها ولحمتها ، وذلك من خلال الأمر بتنصيب إمام يكون المسلمون كلهم تحت إمرته ، ومن الأدلة على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ، مات ميتةً جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها ، وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ، فليس مني ولست منه ) .

فهذا الحديث الشريف يبين وجوب طاعة الإمام ، واعتبار من خالفه وخرج عنه من المتصفين بصفات الجاهلية ، أعاذنا الله من ذلك ، فالمسلمون يجتمعون تحت راية واحدة ، تحت نظام واحد ، تحت إمرة أمير واحد ، وإلا فالنتيجة التفرق والاختلاف ، وهذا ما ذمه الشارع ونهى المسلمين عنه ، فالمسلمون أين ما كانوا لا بد لهم من وجود نظام ينتظمون به يحافظ على وحدتهم وألفتهم ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن عمر أنه قال : ( إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا عليكم أحدكم ذا أمير أمره رسول الله ) . قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين

وهذا الأثر ثابت صحيح له حكم الرفع ، ولا خلاف في ذلك ، والعلة من تأمير الأمير في السفر الحفاظ على وحدة الجماعة ، إذ المسافر منقطع عن الإمارة الحقيقية ، لذا جاء تقيد الإمارة في السفر دون غيره ، مما يدلنا ذلك على وجوب اجتماع المسلمين في الحضر والسفر ، أما في الحضر ، فمن خلال طاعتهم لإمام المسلمين ، وأما حال انقطاعهم عن إمارة الأمير العام ، كأن يكونوا في سفر ، فمن خلال أمير السفر ، والجماعة اليوم قائمة وستبقى قائمة إلى يوم القيامة ، واحتمال تفرقها قائم ، وعليه لا بد للجماعة من أمير ينظم شؤونها ، ويجمع بين أفرادها حتى يتحقق لها الاجتماع ، وهذا الأمر يحتاج إلى تفصيل أكبر ، فليس المجال مجال تفصيل .

خلاصة القول :

إن اتباع سبيل المؤمنين واجب ، وهو سبيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهم المعروفون بأهل السنة والجماعة ، أي أهل الاتباع والاجتماع ، فلا يكون أهل الحق إلا متبعين مجتمعين ، غير مختلفين أو متفرقين ، فهم جماعة واحدة متصلة منذ عهده وستبقى باقية إلى قيام الساعة ، لا يقومون على أفكار اجتهادية ، أو قواعد خلافية ، بل يتبعون النصوص المحكمة وما قام عليه الإجماع ، ولا يوالون ويعادون في أشخاص أو مذاهب أو أحزاب ، ولا يعتزلون أهل الحق ، أو يخذلون عنهم ، بل يعملون معهم ، ويبذلون في سبيل إقامة شرع الله النفس والنفيس ، ومع ذلك فهم متحابون متراحمون متعاضدون ، كمثل الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ، وكل من خالف سبيلهم ، أو عمل بما يتناقض مع سبيلهم ، فهو من أهل الفرقة والضلالة المستحق لوعيد الله سبحانه ، ومن هذا المنطلق ، فإنني ادعو المسلمين جميعاً إلى التعرف على أهل السنة والجماعة ، والعمل معهم ، وعدم خذلانهم ليتحقق لهم النصر والتمكين ، وليكونوا من أهل الحق العاملين الفائزين بجنة عرضها السماوات والأرض أعدها الله لعباده المتقين ،هذا وبالله التوفيق وصلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين



كتب : إبراهيم بن عبد العزيز بركات


ملاحـــــــحظه: قسمتها لقسمين لكي تسهل قرائته ويكثروا القراء
ولأنــــه موضوع طويــــل
فأغلب القراء لايقــــرؤا المواضيـــع الطويـــلة

وهـــــو منقوووووول للفائده