يبدو من خلال هندامها الأسود أنها تشغل منصبا مرموقا، ملامحها توحي بأنها تحمل هموما وآلاما كثيرة، جلست بجانبي.. سيدة في الأربعين من عمرها، حجبت عينيها بواسطة نظارتين ملونتين، أخذت تمعن النظر في محيطها تارة، وتنظر من نافذة القطار تارة أخرى، ألف سؤال يدور بمخيلتها، انشغلت عنها بالكتابة، لم تستطع الصمت كثيرا، خاصة بعد أن لمحت مكتوبا على محفظتي عبارة "وزارة حقوق الإنسان"، فسألتني بلطف: هل تعملين في وزارة حقوق الإنسان؟
أجبتها: لا، إنها محفظة سلمت لنا في إحدى أنشطة الوزارة.
ـ وما عملك إذن؟ تدافعين عن حقوق الإنسان؟
ـ لا إنني أعمل صحفية.
ردت بانفعال: لماذا تنقلون الأنشطة الرسمية فقط، اكتبي عن الرجال وعنفهم ضد النساء، اكتبي مقالا عن الذين يتبجحون بالديموقراطية وحرية المرأة، أولئك الذين يحاضرون ويناظرون هنا وهناك داخل الوطن وخارجه، يستدعون لأرفع المؤتمرات ويقدمون عروضا عن المرأة وحقوقها وحريتها، وينظمون الوقفات الاحتجاجية تضامنا معها في يوم عيدها العالمي ويحملون شموعا وورودا، وهم أول من يحرقون نصف المجتمع، ويحولون الورود إلى أشواك يوخزون بها لحوم النساء فيدمون قلوبهن ومشاعرهن، إنهم أول من ينتهك حقوق الأنثى، وهي لا ترقى عندهم إلى مكانة الرجل ولو كانت أكثر كفاءة منه!
إذا بحثت عنهم ستجدينهم هنا وهناك، صدقيني، أنا أعرف الكثير منهم، وزوجي خير مثال على ذلك!
أجبتها ليس لهذه الدرجة، فربما هناك حالات، ولكن تبقى قليلة.
أجابتني: للبيوت أسرار، لو سمح لك بالاطلاع على ما يجري في البيوت لوجدت عجبا وتوصلت إلى مشاكل تشيب لها الولدان.
استرسلت صاحبتنا في سرد قصتها والدمع ينهمر من عينيها قائلة: زوجي له منصب مرموق ومن أول المهتمين والمدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة خاصة، تزوجنا بعد قصة حب، اقتنعت بترك عملي الذي كان يدر علي دخلا مهما، ثم بدأت المشاكل بعد أن رزقت طفلين، الخروج ممنوع، العمل مستحيل، يعود آخر كل ليل مخمورا، والضرب هو جواب كل خلاف أو وجهة نظر، صدقيني.. لو كان جاهلا لقلت علي بالصبر حتى يتعلم، لكن زوجي من نوع آخر، فهو يتبجح في المؤتمرات والملتقيات بضرورة الدفاع عن المرأة، كل هذا يدفعني أكثر من مرة إلى التفكير في أن أقصد ملتقياته وتجمعاته التي يحضرها، وأكشف حقيقته أمام الكاميرات ووسائل الإعلام، وأقول له: ألا تستحي أن تتفنن في الخطابات الرنانة وتبدو الآن مثل حمل وديع يناصر المظلومات والمقهورات والمستضعفات، وما إن تدخل "وكرك" حتى تتحول إلى ذئب شرس ينهش لحم من ضحت بمالها وعملها لأجلك وصدقت كلامك المعسول في بداية أيام "الباكور".
تركت المسكينة بعد وصولي إلى المحطة التي أريد النزول فيها، وتمنيت لو تأخر القطار لأخفف عنها بعض الشيء، ولسان حالها يردد قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْد اللَّه أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
وقد جاء في المثل المغربي: "قول وفَتْلًُ" وليس "قول وفعل".
الموضوع
مقول
من
لها أون لاين
نقلته للفائدة
الروابط المفضلة