السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
تقول :
قبل الغزو العراقي بسنة ونصف رأيت في المنام اني جالسة في غرفة خضراء، كل ما فيها أخضر، الطاولات
والجلسات والكتب، فقمت لآخذ كتابا، فاذا أفاجأ بشاب يدخل الغرفة يلبس ثيابا خضراء وعمامة خضراء، فسألته من أنت؟ فقال: وليد في الدنيا يرى نفسه للآخرة.. انتهت الرؤيا.
وبعد شهرين تزوجت، وعشت مع زوجي كأسعد ما تعيش امرأة مع زوجها، ورزقت بمولود، ولم يمض وقت طويل
حتى داهمنا القدر بغزو الطاغية -لعنة الله على الطغاة- وشاء الله -ونعم بالله- أن يؤخذ زوجي ويلقى في سجون التعذيب والتنكيل -نكل الله بطاغية العراق وأعوانه-.
ومن هنا بدأ الانتظار..... انتظار فرج الله بعودة زوجي سالما معافى، لم أكن أجلس لأضع يدي على خدي وانتظر
طارقا يطرق بابي ليبشرني بقدوم الغائب الغالي -وان كنت فعلت ذلك في أول الأمر- بل توكلت على الله، وتذكرت الآية
(وان يمسسه الله بضر فلا كاشف له الا هو. وان يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)(الأنعام).
وقالت: اللهم فوضت أمر زوجي اليك، فلا حيلة لي بجلب منفعة، ولا دفع أذى عنه إلا بك، فأعنه على ما هو عليه،
وأعني على ما أنا عليه، ثم ركبت سفينة التوكل على الله، وبدأت مشواري في الحياة مع الانتظار، فقمت بتربية مولود، واضعة نصب عيني وصية زوجي في رسالته اليتيمة... أوصيك بتقوى الله في المولود.
وأكملت دراستي وطلبت العلم على يد عدة مشايخ، وقضيت وقتي بما يعود علي وعلى الآخرين بالفائدة وها أنا
أحضر الدكتوراه، والمولود أصبح شابا متفوقا متدينا يفكر ويخطط بما يعود عليه وعلى أصحابه بالفائدة -حفظه الله ورعاه-.
كانت الرحلة شاقة وطويلة، ولم تخل من عواصف ورياح، تحاول أن تغرقني وتقذفني في بحر الحياة المليء بالهموم
والغموم إلا أنني كنت أربط نفسي بحبل حسن الظن بالله بالسفينة التي ركبتها، وعندما كانت العواصف تهدأ أقوم
باصلاح ما تضرر منها بتحصين نفسي ضد حبائل الشيطان، وحبائل هوى النفس بالإكثار من الطاعات والتزود بزاد التقوى.
وكثيرا ما كانت السفينة تسير في الظلام الحالك،فيما كان يخالطني الشعور بالخوف والرهبة، الا ان نور رحمته -
سبحانه- ونور عطائه ونور كرمه ونور مغفرته ونور عفوه.... كثيرا ما يخفف عني ويسليني، ويطفىء ما كنت
أحسه من حرارة الشوق واستعجل الفرج، واتذكر قول الله تعالى (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)(النساء-19).
وفعلا وجدت الخير الكثير، اعظم ما في الرحلة اني عشت مع الله... أرى قدرته ورحمته وفيض عطائه... أرى
فضله... الله ما أجمل تلك الحظات التي اسكب دموعي بين يديه أحس بعطفه وحنانه وقربه... انظر... ولكني لا أنظر لأرى وإنما أنظر لأتأمل جماله.... وأسمع لا أسمع لأستمع بل أسمع لأنصت لعذوبة كلامه....
أبعد ذلك هل أمل أو أتضايق؟ كلا.... ما زالت السفينة تسير وانا انتظر على متنها..... وبعد اربع عشرة سنة توقفت
السفينة... عند شاطىء يسمى شاطىء الوصول، فإذا بي أجد بغيتي على الشاطىء ممددا في تابوت قد غسلته
الملائكة وطيبته، وكتب الناس اسمه على لوحة الشهداء -اللهم أبلغه أعلى منازل الشهداء- ينتظرون ليزفون إلي خبر استشهاده، فتذكرت الغرفة الخضراء والعمامة الخضراء... (وكان أمر ربك مقضيا).
سجدت شكرا لله، واختلطت دموع الفرح مع دموع الفراق، ولهج قلبي قبل لساني بالدعوات له، ثم زف في وسط
موكب رهيب، ليستقر على أرض الشهداء، فاذا الأرض تحتضن رفاته كما تحتضن الأم وليدها، كأنها تقول لي: لا تخافي ولا تحزني عليه. غاب عن ناظري ولكن لم يغب عن مخيلتي.....
ركبت السفينة وأنا كلي أمل على أننا سوف نلتقي يوما ما... في مكان ما... مع جماعة ما...
(جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب. سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (الرعد-23).
وسارت السفينة لكن ليس في بحر الحياة وإنما في بحر الآخرة..... وهكذا انتهت مرحلة الانتظار لتبدأ مرحلة الاعداد للآخرة.
(ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين).
زوجة شهيد -بإذن الله-
من جريدة الوطن
الروابط المفضلة