الحياةُ تجمعُ الأفراح والأتراح، فلا فرحٌ دائمٌ ولا حزنٌ باق، والدهرُ يومان يومٌ لك ويومٌ عليك، كما قال أبو البقاء الرندي في قصيدته المشهورة:
هي الأمورُ كما شاهدتها دولٌ
من سرهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وبالرغم من أن بعض المصائب خطبُها جللُ إلا أنها في الوقت نفسه تعتبر رحمة بالمسلم الصابر المحتسب الذي يعلمُ أن ما أصابه لم يكن ليُخطئهُ وما أخطئهُ لم يكن ليُصيبه.
وأفراحُ المرء وأحزانهُ مكتوبة ومقدرة عليه تقديرًا، ولله حكمةٌ بالغةٌ في ذلك.
(قصة)
في يوم من أيام الله انشق الفجرُ ودوى الأذان وارتفع صوتُ الحق مُجلجلاً (الله أكبر). استيقظ الوالدُ على صوت المؤذن الندي، وذكر الله وتوضأ فانحلت عقدة الشيطان التي كانت على قافيته، ثم بادر بإيقاظ زوجته وأبنائه الثلاثة للصلاة فاستجاب الجميعُ واستعدوا للصلاة وبدؤوا يومهم بطاعة الله، بدأت هذه الأسرة يومها بنشاط منطقع النظير لأن من صلى الفجر في جماعة كان في ذمة الله. إن رب هذه الأسرة يرى أبناؤه الرحمة في عينيه والعطف والحنان في تصرفاته معهم، لم ترتفع يده يومًا من الأىام ليضرب أحدهم ولم تتحرك شفتاهُ ليتلفظ بسبٍ أو شتم لأحدٍ منهم، وإنما تتحرك يدهُ المباركة ليمسح على رأس أحدهم مسحة حنان وعطف وشفقة، وربما تتحرك شفتاه لتخرج منها دعوة بالخير لهم أو كلمة فيها توجيهٌ ونصحٌ وإرشاد. إن ذلك الوالد يتعبُ ليرتاح أبناؤهُ ويشقى ليسعدَ أحبابهُ الصغارُ، ويسهرُ الليل كله إذا مرض أحدُ أبنائه ويتمنى أن يكون ولدهُ سليمًا وهو المريض. وكعادة ذلك الوالد الحنون أيقظ أبناءه لصلاة الفجر وتناول معهم طعام الإفطار ثم قام بتوديع شريكة حياته وقبل ابنته الصغيرة ذات السنوات الثلاث، ثم أوصل الطلاب منهم إلى المدارس وانطلق بحيوية ونشاط إلى مقر عمله..
وبينما هو مُستغرقٌ في أداء مهامه الوظيفية بجدٍ وإخلاص إذ به يسقطُ على الأرض مغشيًا عليه فهب من كان معه ليسعفه وأقعدهُ وجعل فخذهُ وسادةٌ له وطلب الإسعاف له، وقبل حضور الإسعاف بدأ في الاحتضار وبدأ يُنازعُ سكرات الموت وبدأ يذكرُ الله وتشهد وتفوه بكلمة التوحيدُ وأخذ يُرددُ بعض الآيات الكريمة وفاضت روحهُ وأسلم نفسه إلى بارئها، وتأثر أقرانهُ في العمل والتزموا الصمت وكأنما على رؤوسهم الطيرُ، وحملهُ بعضُ أصحابهِ إلى داره، وبعد وصولهم إلى منزله طرقوا الباب فقالت زوجته لأحد أبنائها افتح الباب لأبيك ولما فتح الباب لم يرى أباه وإنما رأى مجموعة من الرجال فسلم عليهم ذلك الطفل وفتح المجلس لهم ودعاهم للدخول ظنًا منه أنهم ضيوفٌ ودخلوا المجلس ومعهم جُثمان أبيه ولما وضعوا الجثمان على الأرض في المجلس ورأى الطفل منظر والده وهو مُسجى على الأرض، سألهم: ماذا أصاب والدي؟ فتوقفت الكلمات في حناجرهم جمعيًا، وأصابتهم الحيرة من أمرهم، ماذا يقولون لذلك الابن وإخوانه أم ماذا يقولون لزوجته؟ لو أخبروهم بالخبر لكان كالصاعقة عليهم ولو سكتوا لكانت مصيبة أخرى، تكلم أحدهم وقال لذلك الطفل الصغير لقد كتب الله على والدكم الموت وهو حقٌ ولا بد لكل إنسان أن يموت، فبكى ذلك الطفلُ بكاء شديدًا كادت روحهُ تخرجُ من شدة البكاء فسـمعت والدته بكاءه وصوته الناطق بالبكاء فخرجت على إثر ذلك الصوت والنحيب وعلمت الخبر إلا أن الله ربط على قلبها لتكون من المؤمنات واسترجعت وقالت إن لله ما أعطى وله ما أخذ اللهم اغفر له وارحمه واجمعنا به في دار كرامتك كما جمعتنا به في الدنيا على طاعتك.
وكلما جاء الفجرُ ازداد حزنُ أبناء ذلك الرجل الصالح حيث يتذكرونه ويتذكرون عطفه وحنانه وشفقته ويتذكرون نُصحه وتوجيهه لهم، وتزدادُ حسرةُ زوجته ولوعتها عندما تسأل بنتُها ذات السنوات الثلاث عن والدها الذي عودها أن يطبع على خدها قبلات الحب والحنان والعطف والشفقة لا حول ولا قوة إلا بالله {الذين إذا أصابتهم مصيبة قـالوا إنا لله وإنا إليـه راجعون}.
إن مما يُخفف مُصيبة ذوي ذلك الرجل المبارك ثناءُ الناس عليه، وذكرهم له بالخير، والناسُ شُهداء الله في أرضه وحقًا {إنك ميتٌ وإنهم ميتون}.
الكاتب
سعد بن محمد الموينع
الروابط المفضلة