بسم الله الرحمن الرحيم



في كلّ عام تستقبل الأمّة الإسلامية شهرًا عظيمًا، وما هي إلاّ أيّام قليلة مرّت على دخول هذا الشهر الكريم وأصبح الواحد منّا يهنئ الآخر على قدومه، فهو شهر الشهور، شهر العبادة، شهر الصّيام، شهر المغفرة وشهر العتق من النيران.

المتأمل جيّدًا في أحوال العباد من النّاس، يجد أنّهم استقبلوه بكلّ شغف وشوق وكأنّهم كانوا في انتظار ضيف عزيز قادم من السّفر، وللأسف الشّديد تحزن قلوب هؤلاء العباد على فراق هذا الحبيب الّذي آنسهم من أوّله إلى آخره بالذِّكر والدّعاء والعبادة، فتجد كلّ واحد منهم قلبه منكسر محزون وهم لا يدرون هل سيجدهم العام المقبل أم لا؟ في عداد الأحياء أم الأموات؟ ولم يبق منه إلاّ القليل وقد أوشكت أيّام نوره ونور القائمين على الرّحيل

نصيحتي إلى كلّ مسلم قد قصّر في الأيّام الّتي خلت أن يبادرها بالتوبة والإنابة في القليلة الّتي بقيت، وما هي إلاّ لحظات لا نفقه حقيقتها أهي لحظات عزاء أم سرور. فمَن أحسن فيه وأخلص لله تعالى فعليه مواصلة المسير وله الجنّة، ومَن فرّط فيه فليكن ختامه تداركاً بالأعمال الصّالحة والاستقامة على أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، واجتناب البدع والأهواء، لعلّ هذه الأعمال تكون شاهدة يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه تعالى. فلنتذكر كم من واحد كان معنا في رمضان العام الّذي انصرم وجاء عليهم هذا العام وهم في القبور ووجدوا ما عملوا في حياتهم إن كان خيرا فخير وإن كان شرًّا فشرّ. فكل عين تدمع على فراق هذا الشّهر الكريم عينٌ ترجو من الله القبول وإعادته أيّامًا مديدة وأعمارًا عديدة. فأقول للمفرّط فيه وقد لا يزال في ذلك بأنّه لا ينفع مع البكاء شيء إلاّ التوبة، ألاّ تتذكر كم من ناصح لك؟ فما قبلتَ نُصح النّاصحين، وكم مرّ بك المنيبون القانتون؟ فما حرّكتَ ساكنًا وكم وكم وكم؟ حتّى إذا ضاق بك الوقت وحاق بك المقت ندمتَ على التّفريط من حيث لا ينفع النّدم، فبادِر بالتّوبة وتصدّق في سبيل الله فرمضان يودّعنا في احتضار، عسى أن تلحق بالّذين قُبِلَت عباداتهم وغُفرَت خطاياهم وعتقوا من نار جهنّم نار السّموم ورزقوا باب الريّاّن الّذي لا يدخله إلاّ الصّائمون المخلصون.


واعلم رحمك الله أنّ الشّقي من العباد مَن أدرك رمضان ولم يغفر له، وفيه قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين رقى المنبر فلمّاّ رقى الدرجة الأولى قال: ”آمين” ثمّ رقى الثّانية فقال: ”آمين” ثمّ رقى الثّالثة فقال: ”آمين”، فقالوا يا رسول الله سمعناك تقول آمين ثلاث مرّات، قال: ”لمّاّ رقيت الدرجة الأولى جاءني جبريل عليه السّلام فقال: ”شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له، فقلت آمين” رواه البخاري في الأدب المفرد وعليه ها نحن نودّع رمضان شهر البركة والخيرات فهل تغيّرنا؟ هل خلعنا ثوب الحقد والحسد؟ هل تطهّرت نفوسنا من الغيّ إلى الرشاد؟ هل وهل وهل؟ فكيف بنا ندرك شهر التّوبة والرّحمة ثمّ نودّعه بوداع أعمالنا الصّالحة وأخلاقنا الطيّبة وعباداتنا وتطوّعاتنا لله تعالى. فهذا والله لمن فعل اليهود والنّصارى. ولهذا كان لزامًا علينا أن ندرك حقيقة هذا الشّهر الكريم وحقيقة صومه وأنّ الغاية كلّ الغاية منه هي التّقوى، قال تعالى: ”كُتِب عليكم الصّيام كما كُتِب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون”، وهذا نجده كذلك في سائر العبادات.. إذن ها هو رمضان يودّعنا وكأنّه يحتضر، وإنّ أفول نجمه ليجمع بين العزاء والفرح والتهنئة، فلحظات وداعه لا تنس ولوعتها لا تبل وإنّ دموعه لتحرق الوجنات بحرارة العبرات فهل تغيّرنا؟

رمضان معهد الأجيال في صلاح حالهم وكلّ أمورهم، فلنحذر من الرّجوع إلى المعاصي بعد أن تخرجنا من هذا المعهد الوثيق حاملين شهادةً ليس كمثلها شهادة أبدا عند الله تعالى، ولنربّي أنفسنا بأنّ الإله الّذي يُعبد ويُخشى في رمضان هو الإله الّذي يُعبد ويُخشى في غيره من الشّهور، فبئس قوم لا يعرفون الله إلاّ في رمضان، فإذا انسلخ هذا الشّهر هجروا العبادة والذِّكر والأخلاق الرفيعة


منقول