أي الأيام أجمل؟ سأل نفسه بعد مرور السنين الطوال.. وبعد أن كاد يتخطى مرحلة الشباب.. تراه هل تأخر في السؤال؟ أم أن إجابة هذا السؤال في هذه المرحلة من العمر لا تقدم ولا تؤخر؟
يُخيل إليه أن الأيام الجميلة نادرة.. أو ربما إحساس الإنسان بالأيام دائماً إحساس مسؤولية وانشغال وهموم وليس إحساس بهجة وتفاؤل وانشراح؟ أحضر ورقة وقلماً وجلس يكتب عن الأيام الجميلة في حياته.. فكتب:
1- أيام اللقاء بالأم والأب بعد غياب أو سفر.. فلهفة اللقاء لا ينسى مذاقها.. وبعد رحيل الأب كان التركيز على الأم وإرضائها لإحساسه الكبير بالتقصير الشديد في حق أبيه، فنعمة كبرى أن يدرك الابن والديه أو أحدهما في الكبر.
2- لحظة إنجاب الأبناء وأول نظرة يلقيها الأب أو الأم على الوليد هي من أجمل لحظات العمر لا يعرفها إلا من جربها.
03- أيام شعر فيها بالألم وخشي الإصابة بمرض عضال وكان ينتظر بخوف وترقب نتائج الفحوصات وهو يدعو الله بالشفاء فيستجيب الله للدعاء وينجو من خطر محقق.
4- أيام التفوق في الامتحانات من المدرسة والجامعة ومن ثم الماجستير لحظة ظهور النتائج المشرفة ثم اطلاع صاحبها عليها.
5- أيام الاجتماع العائلي مع الإخوة والأخوات والأم في البيت القديم «بيت الأسرة» وعلى الأريكة المتواضعة فيه.
6- الأيام التي تجمع المرء بصديق وفيّ في جلسة هادئة حول الأيام والحياة والتخفيف عن الهموم والضحكات الصافية من القلب.. هل بقي شيء آخر؟
سأل صاحب القصة نفسه.. هل في حياتي شيء أبحث عنه ولم أجده بعد؟ لماذا أشعر أن حياتي خاوية رغم ازدحامها بالأحداث والأشخاص؟ لماذا افتقد الشعور بجمال الأيام رغم أن الله أنعم عليّ بالكثير؟! لماذا يقيّدني الملل فأهرب من بيتي لعملي ومن عملي للسفر في الداخل والخارج.. ثم أعود كما كنت؟ لست راضياً ولست سعيداً؟
ما الشيء المفقود في حياتي؟ سأل نفسه.. وكان جالساً بالمقهى يتأمل الرائح والغادي.. ويتأمل حركة الحياة من حوله، تلك الحركة التي لا تنتهي.. وبينما هو غارق في تأمله لمح أحد أصدقائه القدامى.. هرع إليه فالتفت إليه الصديق معانقاً ومعاتباً على الغياب الطويل.. أين أنت ياصديقي كل هذه السنين؟ جلسا يتعاتبان ويتحدثان.. وجد صديقه لايزال مكتظاً بحماس الشباب وتفاؤلهم.. قال له: لم تتغير ياعزيزي، لازالت مرحاً تعشق النكتة والفكاهة ولا تنسى الابتسامة ولا هي تنساك.. أجاب الصديق: ياأخي، إذا فكر الإنسان في الهمّ زاد همّه.. وقد مرت بي هموم لا تتحملها الجبال.. وكنت أغرق فيها حتى أكاد أختنق.. ثم لا يقدّم هذا في الأمر شيئاً ولا يؤخر.. كثيراً ما مرت بي أيام ثقيلة.. لكنني لا أنكر أيضاً أنني عشت أياماً جميلة ومنها حين طبعت أول كتاب لي عن (فن الحياة) ولاقى رواجاً كبيراً.. والعجيب.. والمضحك أنني كنت أوْلى الناس بفهم واستيعاب هذا الكتاب قبل قرائه.. فكنت اقرأه بين الحين والآخر فأشعر بفائدة كبرى وكأني لم أسطر سطوره بيدي.. لقد اكتشفت أن أجمل الأيام في حياتنا هي التي نكون فيها مع الله.. نربط حياتنا اليومية وأقوالنا وأفعالنا بالخالق عز وجل.. نوجه نوايانا لإرضاء الله وليس للناس أو طلباً للمال أو الجاه.. ابدأ يومك بالتوكل على الله ثم تذكر أن الله يراك طوال اليوم وليس وقت الصلاة فقط.. وتجنب أن تخوض وقتك مع الخائضين فيما يضر الآخرين أو لا ينفع أحداً.. باختصار احفظ لسانك واقرأ في العلوم الشرعية والفقه والحديث واستمع لعلماء الدين الموثوقين علماً وعملاً وللقرآن أكثر وقت ممكن.. ستجد للأيام معنى آخر.. إن هذا الإحساس الجميل لا يعرفه إلا من أدركه.. لا تجعل الحياة هدفاً في حد ذاتها فترهق نفسك دون طائل.. لأن الحياة رحلة من الفقد والاكتساب.. وهي «امتحان» تشبه امتحانات الدنيا التي كم اجتهدنا لنكون فيها (الأوائل).. أتذكر ياعزيزي أيام كنا صغاراً نحزن كل الحزن لأننا فقدنا درجة أو درجتين من المجموع الكلي للمواد الدراسية، أتذكر ونحن في الجامعة حين بكيت أنت بدموع ساخنة لأنك حصلت على «جيد» وكنت تتوقع الحصول على «جيد جداً».
لماذا لا نبكي ياأخي على التقصير في حق الله علينا؟ بل وعلى تقصيرنا في حقوق العباد؟ هل بكى أحدنا لتقصيره في الصلاة أو لجفائه مع زوجته أو أمه وأبيه وإخوته وجيرانه؟
إن الأيام الجميلة في حياتي هي تلك التي أدركت فيها حقيقة الحياة.. واقتربت فيها من الله.. وابتعدت فيها عن الذنوب وقد خصصت في بيتي غرفة بها مكتبة كبيرة ومكتب صغير وجهاز تسجيل ومكتبة سمعية للأشرطة الدينية والقرآن الكريم وكتباً أدبية ودينية عديدة.. ثم علقت في الغرفة نفسها لوحات اخترت فيها إما آيات قرآنية تؤثر في وجدان المرء وإيمانه متى قرأها يومياً.. أو حديثاً شريفاً يزيد إيماني ويقويه.. أو حكمة في بيت شعر أقرأها فيرتاح قلبي وتهدأ خواطري.. وتعمدت أن تكون جلستي في هذه الغرفة على الأرض أي مجلس عربي أرضي لا ارتفاع فيه.. وسجادة للصلاة.. وكلما شعرت بثقل هموم الحياة دخلت هذه الغرفة ومددت يدي لكتاب من كتبي القيمة أو استمعت لشريط تسجيل يفيدني في مثل حالتي تلك.. فتتحسن حالتي النفسية وأصبح على صورة أفضل وأستطيع بعدها مواجهة مشكلات الحياة وهمومها التي أثقلت كاهلي.. فإن لكل مشكلة حلاً وإن بدا الأمر غير ذلك.. فقط دع الأمر لله وارفع يديك بالدعاء له.
صمت الصديق وقال: حقاً: أجمل الأيام هي تلك التي نقترب فيها من الله.. ونبتعد فيها عن الذنوب.. منتهى الصواب والحكمة.
الروابط المفضلة