بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،
إن الناظر في هذه الأيام يرى بأن مد الفكر العقلاني قد أخذ له حظاً عند من نحسبهم من الصالحين والصالحات ، وذلك لأن دعواهم بأن العقل مناط التكليف ، وعليه فلا بد لأي حكم من إثبات عقلي ، فإن لم يقتنع العقل به فله رده .
هذه الدعوى ظاهرها مبهرج ، وباطنها فاسد ، وإنما هي كعمل السحرة ؛ يخيل إليك من سحرهم أن تسعى !!
نعم هي دعوى باطلة قامت على شبهة متهالكة تضرب العقل بالنقل ، وعليه أقول :
1- نعم العقل مناط التكليف ، وقد رفع القلم عن المجنون كما جاء في حديث عائشة وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم عند أهل السنن وغيرهم .
لكنه لا تعارض بين العقل والنقل ، وصحيح المنقول لا يعارض صريح العقول -كما بين شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه القيم (درء تعارض العقل والنقل)- ، لذا فإن ما يقع في الذهن من أوهام حيال الأحكام الشرعية إنما منشؤها فهمٌ خاطئ ومقدمات خاطئة .
2- يجب أن يفرق بين صريح العقل ، وبين التشهي والشبه ، فما يقع في النفوس من حب للشهوات التي جاء الشرع بتحريمها أو تجريمها ، أو يقع فيها من شبه وأفكار فاسدة تعارض الشرع ، بحيث يجعلها صاحبها معارضة للشرع ، ويبني على ذلك أن الشرع يعارض العقل الذي هو مناط التكليف . فهذه الشهوات والشبهات لا دخل لها في صريح العقل . بل صريح العقل يرفضها ، وهو متوافق تماماً مع صحيح النقل .
3- يبقى هناك ما تحار فيه العقول ولا تعارض وقوعه ، وهو ما امتدح الله به المؤمنين من عباده في ثاني سور المصحف : {الذين يؤمنون بالغيب} ؛ فكلنا نؤمن بيوم المعاد وبالجنة وما فيها من نعيم وأنها بخلاف نعيم الدنيا ، وعقولنا لا تمنع وقوع ذلك ولكننا نَقْصُرُ عن إدراك كيفيات تلك الأشياء ؛ لأنه لم يتيسر لنا العلم بكيفياتها .
ومعلوم بأن سبيل معرفة الكيفية يحصل بإحدى ثلاث : رؤية الشيء والإحاطة به ، والثانية : رؤية مثيله مما يشابهه في كيفيته ، والثالثة : الخبر الصادق عن كيفيته .
وأقرب مثل نضربه هنا الروح ؛ فالروح هي القوة المحركة لنا كلنا ومع كونها ملتصقة بنا فإننا نجهل كيفيتها ومادتها ، وكل مَنْ تخرص علم ذلك وهم و وَهَلَ وغلط . فنحن لم نر الروح ، ولم نر شبيهاً لها في الخارج المشاهد ، ولم نسمع خبراً صادقاً عن كيفيتها ، بل جاء الخبر الصادق ببعض صفاتها ؛ كالخروج من الجسد ، والصعود .
وعليه فإيماننا بما جاء به الشرع ينبغي أن يكون تاماً ويقينياً ، سواء أدركنا ذلك بعقولنا أم لم ندركه .
وقول المؤمنين : {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} ، أما اليهود -قبحهم الله- فقالوا : سمعنا وعصينا .
وقال تعالى : {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الحيرة من أمرهم} .
وهذا ينسحب على كل ما لم نعقل معناه أو كيفيته مما جاءنا به الشرع ؛ كأعداد الصلوات والركعات وهيئات الصلاة ، أو كصفات الباري جل وعلا وأمور الغيب من المعاد والجنة والنار و الملائكة والشياطين ونحو ذلك . فنحن نؤمن بذلك كله ؛ نؤمن بأن في كون صلاة الفجر -مثلاً-ركعتين معنى وحكمة ، لكننا نجهلها ، ونؤمن بأن لصفات الله تعالى كيفية تليق به لا ندركها وإن أدركنا معناها .
ونؤمن بأن أي أمر أمرنا الله به ففيه مصلحة لنا ، وله سبحانه في الأمر به حكمة ، وكل ما نهى عنه تعالى ففي تركه مصلحة ، وما نهى عنه تعالى إلا لحكمة . نسلِّم ونصدق ونذعن ونؤمن ولا يقع في قلوبنا أدنى حرج من ذلك . وذاك صريح الإيمان .
4- العقل يلحقه النقص البشري ، فهو محدود الإدراك . فأمور الغيب وما لا يحيط العقل بكنهه وحقيقته -كما قدمت في مثال الروح- ، وكذا مآلات الأشياء وعواقبها وما تصير إليه ، لا يدركها العقل المجرد ، ولا يحسن الركون إلى العقل في تقديرها . ولذا جاء الشرع ببيان ذلك .
وفقني الله وإياكم لصالح القول والعلم ،
والحمد لله رب العالمين .
الروابط المفضلة