هناك أشخاص يمرون في حياتك..

فيتركون أثر جرح.. وهم كثر..
وأشخاص يمرون.. فيتركون رائحة عطر.. وهم قلة..
وآخرون يمرون..
فيتركونك.. شخصاً آخر..!
وهؤلاء..
قد لا تراهم سوى مرة واحدة في حياتك..
بثينة كانت من ذلك النوع..
- لا أعرف لماذا لم يجدوا غير هذه المراييل السخيفة ليرغمونا على لبسها؟!!
تبتسم وهي تقلب صفحات دفترها وتهز كتفيها..
- هه!.. ربما لأنهم لم يجدوا ما هو أسوأ منها!
- بالفعل.. أنت صادقة.. تبدو كأثوابٍ رجالية! خاصة وأن لونها الرمادي كئيب جداً ويشجع على كره المدرسة والرسوب.. بل حتى على فكرة الانتحار..!
- أففف!.. انتحار مرة واحدة!!.. حرام عليك.. كان خلصوا بنات المدرسة!
يأتي صوت المراقبة أبلة العنود..
- يا الله يا بنات.. طوابير.. يا الله.. الله يجزاكم خير.. صفرت من خمس دقايق..
- طيب طيب.. بشويش علينا..!
تضحك بثينة.. وتهمس لي..
- أي (بشويش) يا روان؟! المرة مسكينة قاعدة تترجانا.. أنت اللي بشويش عليها..
نقف بملل في الطوابير..
لا تشدنا الإذاعة المدرسية التي لم تتغير طريقتها منذ المرحلة الابتدائية.. (هل تعلم).. (حكم وأمثال).. تتكرر على مسامعنا كل سنة..
أهمس لفدوى التي كانت تقف أمامي في الطابور..
- رأيت كليب (فلانة) الجديد أمس..؟
ترد بفزع..
- لا.. ! أي كليب جديد.. ما شفت شي أمس؟
- يا شيييييخة.. معقولة؟ فاتك نص عمرك..!
تهمس لي بخوف كيلا تسمعها المراقبة..
- وييين؟.. متى شفتيه..؟
- في قناة الطرب.. بس شي خيااااال.. اليوم أقول لك قصته..


نسكت قليلاً بينما تستمر الإذاعة..
(هل تعلم أن سرعة عطسة الإنسان تبلغ 60 كم في الساعة.. وأن..)
تكمل فدوى همسها..
- وشلون طالعة في الكليب..؟
- يوووه.. يبغالها جلسة.. اصبري إن شاء الله في الفسحة..
بدا التضايق على بثينة وهي تسمع حوارنا..
فلاطفتها بابتسامة اعتذار تعرفها جيداً.. وهي تنظر إلي بحزن..
- بس يا اللي ورا!!!
تصرخ الوكيلة المخيفة..
ويسود الصمت للحظات..
ثم تسير الطوابير..

* * *

حاولت مراراً أن تقنعني بأن أسجل معها في الدار..
لكني كنت أتحجج بأشياء كثيرة..
(ما عندي وقت.. ما عندي مواصلات.. صعبة.. ما أقدر أحفظ.. أخاف أتفشل..)
وحين سجلت في ناد رياضي..
اكتفت بأن واجهتني بابتسامة عتاب فهمتها بسرعة..
كان لبثينة بريق خاص في عينيها..
كانت فتاة هادئة.. خجولة.. وقوية في نفس الوقت..
لا أعرف لماذا كان الجميع يقولون أنهم يشعرون براحة عجيبة عند الجلوس معها أو التحدث معها..
تشعرين أنك مع إنسانة صادقة.. صافية السريرة تماماً مثل مرآة.. هادئة حد الدفء..
وكان الجميع يستغرب أن نكون صديقتين.. رغم اختلافنا..
كانت تقول لي دائماً..
- فيك خير كثير يا روان.. أنت إنسانة رائعة.. فقط.. فقط لو تتركين عنك بعض المنكرات..
- يوووووه.. عاد سويتيها (منكرات).. أنا بس اسمع شوية أغاني..
- والدش؟
- أي دش..؟ أنا بس أشوف شوية كليبات ومسلسلات علشان أشوف الناس شلون تلبس وتتمكيج.. بس!.. صدقيني هذا بس اللي يهمني..!
- لكن هل تشعرين أن هذا الشيء صحيح؟ ماذا لو لاقيت ربك.. اليوم.. أو غداً.. ألن تندمي على هذا؟
فأسكت..
- الله يهدينا يا بثينة.. ادعي لي بس..
ورغم استغراب الجميع من صداقتنا..
إلا أن بثينة كانت تعلم كم هو قلبي صاف على الآخرين.. وأنني أحافظ منذ صغري على الصلاة والسنن.. وأحب عمل الخير.. ومناصرة الحق.. وكم أن مسألة الأخلاق والحشمة هامة لدي.. وكذلك بر الوالدين..
لم أكن أحب الغيبة.. ولا النميمة والكذب..
كانت هناك لدي فقط أمور.. لا أعرف لماذا تلطخ بياض أعمالي الصالحة.. ولا أستطيع تركها.. سماع أغاني.. غفلة.. انشغال بتوافه الأمور.. وكنت أتحجج بأننا لا نزال صغاراً في السن.. ولا بأس علينا بذلك!

* * *

في آخر يوم من أيام اختبارات سنة ثالث..
كان يوماً بارداً.. لم نستطع فيه الجلوس كما خططنا في الساحة..
ولم تكن لدينا شهية لأن نطلب من مطعم كما خططنا أيضاً..
اكتفينا بوداعٍ حزين تخالطه الدموع الحارة..
وتبادلنا شيئاً من هدايا بسيطة..
ناولتني بثينة علبة هدية جميلة..
- أرجوك.. يا روان.. اقرئي هذه الكتيبات واسمعي الأشرطة التي انتقيتها لك.. إنها رائعة..
- إن شاء الله..
ابتسمت والدموع تترقرق في عينيها..
- ولا تنسيني...
كنت أحاول التظاهر بأني قوية ومتماسكة..
لكن حين تذكرت صبر بثينة علي طوال السنوات الماضية ومحاولاتها المتواصلة لنصحي وتغييري وهدايتي شعرت بالعطف والحزن عليها.. وبأني قاسية ومخيبة للآمال.. فانهرت بالبكاء.. ورجوتها أن تسامحني..

* * *

نسيت أمر الهدية في معمعة الإجازة..
لم أقرأ كتيبات بثينة.. ولم أسمع أشرطتها.. بل لم أفتح العلبة أصلاً..
سجلت في الجامعة.. انشغلت..
لم أتواصل معها على الهاتف إلا مرتين أو ثلاث..
ثم انقطعنا..
مضى عام كامل.. عامان..
في السنة الثالثة من دراستي الجامعية..
ودون مقدمات.. أتاني الخبر عبر موجات الجوال..
- روان!.. هل عرفتِ ماذا حصل؟
- ماذا؟
- بثينة هل تذكرينها؟
- كيف لا أذكرها.. إنها صديقتي..
- توفت الله يرحمها.. حادث سيارة في طريق عودتهم من العمرة..
توفت.. توفت.. توفت؟؟؟ هكذا بكل بساطة.. زالت بثينة من هذه الحياة..
معقولة.. بثينة؟ صديقتي الحبيبة..
لم تعد.. موجودة..؟!
لا أستطيع رؤيتها أبداً؟!

* * *

الأشخاص الرائعون لا نشعر بقيمتهم إلا حين نفقدهم..
كنت أواعد نفسي بزيارتها ورؤيتها.. في وقت ما..
لا أعرف.. حين أنتهي من (الانشغال)..
والآن.. ها أنا أزور بيتهم معزية..
أخذت أبكي بحرقة..
كيف اختفت بثينة هكذا..؟
كانت تذكرني دائماً بأن الموت قد يخطفنا في أية لحظة.. لكني لم أتخيل أنه يمكن أن يأتي بهذه السرعة.. بهذه.. الـ (مفاجأة)!!
سبحان الله..!
الآن هي تواجه منكر ونكير في قبرها.. هي تسأل..
تعرض عليها أعمالها الصالحة والسيئة..
بكيت كثيراً وأنا أتخيل وحشتها في قبرها..
كان بالإمكان أن أكون أنا مكانها..
وتذكرت رجاءها لي أن أقرأ كتيباتها التي أهدتني..
شعرت بعطف كبير عليها.. وحين عدت للبيت أسرعت أحقق رغبتها..
وكأنه أبسط ما يمكن أن أفعله من أجلها.. بعد رحيلها..
فتحت العلبة وأنا أغالب دمعي وأخرجت الأشرطة والكتيبات لكي أقرأ وأسمع..
وإذا بورقة تسقط من بينها.. ملفوفة بشريط من الساتان..
رسالة..!
ياااه!.. من ثلاث سنوات.. ولم أقرأها إلا الآن..؟!
فتحتها بحرص.. وبدأت أقرأ وأبكي..
حتى وصلت لمقطع هزني..
(سأظل أدعو لك يا روان.. وسأظل أدعو الله أن يجمعنا في الفردوس الأعلى من الجنة..وكم أتمنى أن تدعي أنت أيضاًمعي.. وأن نبذل قصارى جهدنا لنحقق هذه الغايةالعظمى..وننعم بصحبة الأنبياء والأولياء.. ادعي معي يا روان.. لا تنسي!)



بكيت كثيراً..

إذاً.. كانت تدعو منذ ثلاث سنوات.. وأنا؟
أنا.. لاهية.. غافلة.. أتابع هذه القناة وتلك.. وهذا الشريط وذاك..
لقد عملت هي... فهنيئاً لها إن شاء الله..
لكن أنا.. ماذا عملت؟
منذ هذه اللحظة قررت أن أبدأ في تحقيق أمنيتها بإذن الله..
الفردوس..
وبدأت طريقاً جديداً أتدارك فيه ما مضى من عمري..
ورغم أن بثينة – رحمها الله- قد مرت في حياتي ورحلت..
لكنها تركتني شخصاً آخر.. تماماً..
وندرة هم من يغيرونك.. حتى بعد رحيلهم..




**مجلة حياة العدد (66) شوال 1426هـ