د. عبدالله بن مرعي بن محفوط
بالأمس عاشت جدة بأعيانها وتجّارها وصنّاعها أمسية اجتماعية بنكهة اقتصادية توازي بكل ما تعنيه الكلمة من تعبير أو وصف، منتدى جدة الاقتصادي التاسع، خاصة بوجود راعي الحفل أمير منطقة مكة المكرمة خالد الفيصل، وفي هذا الليلة التي أبدع فيها الوجيه محمد شربتلي بكلمته المنمّقة والمهندس حسين أبو داود بتلقائيته المعتادة، حيث لم يكن احتفالاً أو تكريماً فقط، وإنما كانت ليلة (وفاء) وتقدير وإجلال لأهل الوفاء والخير والبركة من ولاة الأمر، والذي يتكرر مع مرور الزمان، فحكام منطقة مكة المكرمة أصحاب السمو الملكي الأمراء فواز وماجد وعبدالمجيد - رحمة الله عليهم أجمعين وعلى جميع أموات المسلمين- عُهد إليهم تكريم أهل جدة، سائلاً الله أن يغفر لهم ذنبهم، ويرفع درجاتهم، ويجعلهم في مراتب الصديقين والشهداء.
لقد احتضن ليلة الأمس مركز جدة للمنتديات والفعاليات مقومات جدة الاجتماعية والاقتصادية والرسمية، وتجاور رجال المجتمع ورجال الأرقام والتجارة أمام الشاعر والمفكر العربي خالد الفيصل الذي يحمل بيننا رسالة وذكرى الملك فيصل، صاحب رؤية تطوير منطقة مكة المكرمة، وقائد فكر إدارة المناطق الناجحة، الذي يضع النتائج نصب عينيه والإنجاز همته، ولن أصف أو أقول أعظم ممّا قيل في الحفل، فقد تتلمذ على يد ملك عظيم دانت له الدنيا، وتركها شهيدًا، وخُلد اسمه في صحائف التاريخ الإسلامي.
جدة، أيّتها العروس الفاتنة، الغارقة بجمالك على سواحل البحر الأحمر، ما إن يخطب ودّك تاجر أو صانع، حتى يحل في رباك الغالية، ويقبل العيش فيك مهاجرًا أوطانه، فمنطقة مكة المكرمة - تظل شرفًا- لا يناله إلاَّ من عشق مياه بحرِك، ومسؤولية جوارك لأعظم المقدسات الإسلامية، جدة بأبنائها وعوائلها تعاهدوا بالأمس بأن يستمر العطاء الاجتماعي والتعاون الاقتصادي مع التاجر البسيط في وسط البلد، ومع الصياد بقاربه وسط البحر، ومع المهني صاحب الحرفة اليدوية أيًّا ما كان عمله... نعم؛ هؤلاء هم عبق تاريخ أجدادنا، هؤلاء هم تجار جدة الحقيقيون الذين نسير على دروبهم.
وكما قال الداعي للحفل الوجيه محمد شربتلي إن الله سبحانه وتعالى جمع لنا في كتابه العزيز ركيزتين أساسيتين من ركائز القيادة وهي: (القوي الأمين) وذكرت في سورة القصص بقوله تعالى: (يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)، وعروس البحر استجارتك -وتشهد الله- بأنك القوي... وأنك الأمين، هكذا كان الخطاب، والتعبير للشيخ صالح بن علي التركي، وهكذا الوصف انطلق تقديرًا لما أحدثه من نقلة نوعية في جمعية البر بجدة وغير صورتها الخيرية النمطية لتعمل بالفكر المؤسساتي الحديث، كما أحدث نقلة تنظيمية في غرفة جدة كان لها صداها على مستوى غرف السعودية والعالم العربي، فقد عمل وصنع وقاد المؤسسات لرفع نسبة التوطين، وتحققت نتائج هذا العمل على مستوى محافظة جدة، وتفاعل مع مختلف الدرجات الاجتماعية القاطنة في جدة، فلم يترفع عنهم بماله ولا بجاهه بل ظل قريبًا منهم كأنه واحدٌ منهم، وساهم في تكريس المسؤولية الاجتماعية لدى الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص عرفانًا منهم بأن المجتمع أساس التجار، ووضع برنامج التأمين على حياة صغار التجار وبرنامج إطلاق المعسرين من السجون، وهناك العشرات من الأعمال التنموية والاقتصادية إلاَّ أن أجل وأسمى معانيها التجارية إدخال -الصيادين- وحرفتهم الأبدية إلى أروقة غرفة جدة، فعلى امتداد خمسين عامًا لم يلتفت أحدٌ إليهم، بل ظلوا في غياهب بحر جدة يصارعون أمواجه العتية والمخيفة لأجلنا نحن -سكان الشاطئ الجداوي- فمن هؤلاء الصيادين مَن مات غرقًا لأجل أن يزود أهل جدة بألذ وأطيب الأسماك، ومع هذا لم يلتفت أحد إليهم سواه، أقام لهم المراسي النموذجية ودعمهم بقروض مالية وأسس معهدًا لتعليم الصيد، ومن أجل عين لا تحزن -تكرم مدن- لدى صالح التركي.

هذا المناسبة كرمت رجلي مجتمع وتجارة يعدّان من الشخصيات المعروفة بحسها التجاري وفكرها الإداري المتجدد وحُسن علاقتهما -بل عظم علاقتهما- الاجتماعية في جدة، كرم مساء أمس تجار وصناع وأعيان جدة بجوار تكريم الشيخ صالح التركي من اكتسح انتخابات غرفة جدة في دورتها الحالية التاسعة عشرة، وهو الشيخ محمد عبدالقادر الفضل، الذي انتخب بالإجماع بعد مسيرة من العطاء والسمعة الحسنة في التجارة ليكمل المسيرة بعد صالح التركي، وأصبح بذلك رئيسًا لمجلس الغرف السعودية وغرفة جدة، وسوف يعمل بنفس روح المبادرة، وبنفس الأفق البعيد، ونفس العزيمة والتصميم.
منطقة مكة المكرمة التي تعد واحدة من أكبر المناطق السعودية، عُرف عن أهلها التنوع الفكري وألوان الطيف الاجتماعي، وكذلك قطاعها الخاص وبيوتها التجارية والصناعية وأبناؤها أصحاب التجربة الثرية والمتراكمة، التي قلّما تتوافر في أي منطقة أخرى، وإن كانت الفترة المتبقية لدورة غرفة جدة لا تتعدى سبعة أشهر، إلاَّ أن محمد عبدالقادر الفضل قادر -بإذن الله- على تنفيذ مهرجان صيف جدة القادم بالشكل المطلوب، وإقامة منتدى جدة الاقتصادي العاشر لإرضاء رغبات المهتمين لهذا المنتدى، ومعرض الناشر السعودي الذي يسعى هذا المعرض إلى تحقيق أفضل النتائج لدور النشر السعودية، وكل ما ارتبط بالنشر الثقافي والمعرفي، هذه الأعمال وإن كانت كبيرة، إلاَّ أنها بسيطة أمام همّة الرجال من أمثاله.
ختامًا: جدة بقيادة الفيصل روح وشكل وتنوع غير، جدة أثبتت بأنها مدينة الوفاء لأهل الوفاء، فلم تبخل هذه المدينة الحالمة على أبنائها بحبها وكرمها ودفء مرقدها، ومن هنا أتمنى -بل أدعو بحق الوفاء لأهل الوفاء- بأن لا يبخل التجّار والصنّاع والأعيان على جدة بحبها، والعمل من أجل الرقي بها نحو مصاف العالمية، والسعي بلا كلل لأن تصبح زهرة الشرق الأوسط، وأن نحقق كمجتمع حلم (الفيصل) بأن تصبح مدينة جدة عروس السياحة العربية، وهذا حق الوفاء لقائد المنطقة.

المصدر: صحيفة المدينة، الأربعاء 8 ابريل 2009م.
الرابط: http://al-madina.com/node/125073