سجين في كركوك
دخل سعيد ـ وهو رجل من أهل الموصل ـ إلى السجن محكوما بثلاثة أعوام على جرم ارتكبه في ساعة طيش وغضب كما يقول ، وكان سجنه في كركوك وليس في الموصل ، وكان هذا أمرا اعتياديا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي .
واستطاع سعيد ان يتدبر أمره ويعتاد حياته الجديدة في سجنه في كركوك ، وبدأ يتعرف على زملائه في ردهة السجن الكبيرة التي كان فيها ، واستطاع أن يعقد صلات تعارف ـ إن لم نقل صداقة ـ مع معظم الموجودين معه هناك .
ومن بين هؤلاء السجناء ، اجتذب انتباه سعيد كهل اسمه محمود لفت نظره اليه أول مرة أنه كان مقيد القدمين بالاصفاد ، ثم ما لبث أن أدرك سبب هذا التشديد بعد أن عرف حكايته ، كان محمود هذا رجلا بدويا ، وكان محكوما بالسجن المؤبد لقتله رجلا من عشيرة أخرى ، وكان هادئا ساكنا يقضي كل وقته متأملا في نقطة ما في جدار سجنه بصبر وسكون ، والله وحده يعلم بماذا كان يتأمل هذا السجين المتوحد ، وفي أيامها ـ أيام كان القانون محترما في العراق ـ كان السجن المؤبد يعني المؤبد ، فلا مكارم هناك ولا مراحم ولا مناسبات.
ومع مرور الأيام بدأ سعيد يركز انتباهه على هذا الإنسان الغامض الصامت ، ولاحظ أنه لم يتلق زيارة من أحد أبدا ، وفي كل مواعيد الزيارة ، كان معظم السجناء يتلقون زيارة من ذويهم او معارفهم إلا هذا الرجل ، وبعد كل زيارة يجلس السجناء يستعرضون هدايا زوارهم إليهم من طعام ونقود وأشياء إلا هذا الرجل الذي كان يبدو في تلك الأيام ـ أيام الزيارة ـ اشد حزنا وكآبة منه في باقي الأيام ، وان كان يحاول كتمان حزنه وألمه ما استطاع ، وبينما كان السجناء يجلسون سويا جماعات ، يتحادثون فيما بينهم ، يروون أخبارهم التي سمعوها من زوارهم ، يدعو بعضهم بعضا الى الطعام ، يتبادلون الفواكه والحلويات التي أحضرها الزوار لكل منهم ، كان محمود ـ كعادته كل يوم ـ يبقى في مكانه جالسا وحده ، لا يتحدث معه أحد ، ولا يدعوه أحد ، لانه كان في الحقيقة منعزلا عن بقية السجناء ، لا يميل الى الاختلاط بهم ، وان تحدث معه احدهم ، كانت اجاباته موجزة مختصرة لا تشجع محدثه على الاستمرار في الحديث والتبسط فيه .
هل تنكر له أهله ؟ هل ماتوا جميعا ؟ أم أنه نشأ يتيما وحيدا منذ بداية حياته ؟ أم ماذا ؟ ... كان سعيد يسأل نفسه وهو ينظر إلى هذا الرجل البائس الوحيد ، ثم تذكر أمرا آخر ، انه لم ير هذا الرجل يشتري أي شيء من فاكهة أو طعام كما يفعل باقي السجناء ، ولم يره يتناول أي طعام غير طعام السجن الخشن الغليظ منذ أن رآه أول يوم ، واهتزت مشاعره لحال هذا الرجل الفقير وقرر في نفسه أمرا .
وفي يوم الزيارة طلب إلى أمه ـ التي زارته في السجن ـ أن تحضر له في الزيارة القادمة طعاما كثيرا من كل الأكلات الموصلية المشهورة وأكد عليها ذلك ، حتى انه ـ في سبيل أن يستثير اهتمامها ـ لمح لها الى انه سيقدم هذا الطعام إلى مأمور السجن وضباطه .
وعندما حل ذلك اليوم تلقى سعيد هدايا أمه راضيا مسرورا ، وفور انتهاء الزيارة حمل أكياس الطعام الكثيرة إلى ردهته ووضعها أمام محمود ، ثم بدأ يفتح هذه الأكياس ويستعرض محتوياتها الشهية إلى أن اكمل ترتيبها ثم دعاه إلى الأكل قائلا له انه قد كلف والدته بتهيئة هذا الطعام خصيصا له .
ابتسم محمود وهو يرفع يديه الى رأسه تحية لسعيد ولمشاعره الطيبة ، ودعا لوالدته بالصحة وطول العمر ، ولكنه اعتذر منه عن مشاركته الطعام ، وحاول سعيد مرة اخرى واعتذر محمود مرة اخرى ، واستمر سعيد في محاولاته لحمل محمود على مشاركته هذا الطعام الفاخر وهو يكاد يتوسل به ، ولكن محمود أصر على رفضه المؤدب الحازم .
وأخيرا قال له سعيد يائسا : يا عم ، لقد كلفت أمي اعداد هذا الطعام وجلبه من الموصل الى هنا ، وقد كلفها ذلك كثيرا من تعب وجهد ومال ، تكريما لك ، فقل لي على الاقل ، لماذا ترفض دعوتي لك ..
تنهد محمود وابتسم ابتسامة مرة وقال لسعيد : يا ولدي .. ان طعامك هذا شهي فاخر ، واتمنى ان اكل منه الان لانني لم اذق مثله منذ سنوات وسنوات .. ولكنني هنا محكوم بسجن مؤبد لن اخرج منه الا الى القبر ، وقد دخلت هذا السجن لانني قتلت قاتل ابي وكنت وحيده ، لكي أحافظ على كرامتي وأرفع رأسي بين أهلي وعشيرتي ، وبعد سجني ماتت أمي أيضا ولم يبق لي أحد في هذه الدنيا .. قل لي كيف أكافئك ان اكلت من طعامك هذا وأنا أعلم أن لا أحد لي سيأتيني بطعام أدعوك اليه ولن أخرج من السجن يوما ما حتى أرد لك مثله ؟ أتريدني أن أقبل صدقتك عليّ اليوم وأن أقبل صدقة غيرك عليّ غدا وبعد غد ؟ هل ترضى لي ان أفقد كرامتي التي دفعت ثمنها عمري كله بلقمة طيبة وأنا أعرف أنك تحترمني وتريد اكرامي ؟ ان الحكومة قد سجنتني هنا ، وهي مجبرة على إطعامي حتى ألاقي ربي ، وأنا مكتف بذلك قانع به ، بارك الله فيك يا ولدي وحفظ لك أمك وجنبك مزالق الشر ..
نكس سعيد رأسه بألم ولم ينطق بكلمة اخرى ، ثم أشار الى بعض المساجين ان يحملوا الطعام الى مكانهم ويأكلوه هم ، ثم مضى الى زاوية بعيدة في الردهة ووضع رأسه بين كفيه وهو صامت حزين .
في الزيارة القادمة طلب سعيد من امه ان لا تأتي له بطعام الى السجن ابدا واكد عليها ذلك ، ولما سألته امه بقلق عن سبب ذلك وهل كان الطعام سيئا لم يعجب المأمور والضباط .. لم يجب على سؤالها بل أشاح بوجهه وزفر زفرة حارة عميقة .
الروابط المفضلة