سنفرح بالعيد
بقلم :- محمود القلعاوى
جاءنا العيد ونحن بصدد حاضر أليم تعيشه أمتنا ، ومستقبل قاتم ينتظرها، وعدو غاشم يكيد لها، ومؤامرات تحاك لها ليلاً ونهاراً حتى من أبناء المسلمين ، وتخلي الكثيرين عن واجباتهم نتيجة الانشغال بهموم الحياة وذوبانهم في بحارها، وانصراف المؤسسات التربوية والدينية والإعلامية عن واجبها تجاه الشباب الذي تاه وضل ، وصار لا يدري لماذا يعيش ، ولا حتى كيف يعيش .
لكننا سنفرح بالعيد برغم كل ما هو من واقع ، وبرغم سعي الكثيرين للتطبيع مع عدو أمتنا وديننا، والتنازل له عن أراضينا ومقدساتنا ومواردنا ، والتآمر على البقية الصامدة المرابطة حول الأقصى الشريف .
نعم سنفرح بالعيد ؛ لأن اليأس ليس من أخلاقنا ولا من طبعنا - نحن المسلمين- ولأنه تعالى قال :-( لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) سورة يوسف: 37
نعم :- لن نيأس .. ولن نضجر .. ولن نملَّ من طول الطريق بعد أن رأينا ما قاله رسولنا محمدصلى الله عليه وسلملمن شكوا له المحن قائلين :- ألا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ ، أَلا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا ؟ ، قَالَ :- كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ ..رواه البخارى .. وقد حدث ذلك ، وعاشه الناس بعد أن صارت اليمن جزءًا من الدولة الإسلامية .
ولطالما علمتنا حوادث التاريخ أن لحظة الصفر ( الهيمنة الكاملة للعدو ) هي اللحظة التي يعقبها العد التصاعدي نحو النصر والتمكين ، حدث ذلك يوم أن قر قرار مشركي مكة النهائي على قتل رسول اللهصلى الله عليه وسلموحان وقت التنفيذ فخرج صلى الله عليه وسلممهاجراً ، وأعقب ذلك تكوين دولة الإسلام بالمدينة ، وحدث ذلك يوم أن قُتل آخر خلفاء بني العباس وهدمت بغداد " حاضرة الإسلام " ؛ إذ أعقب ذلك وفي نفس اليوم ميلاد عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية التي مكن الله بها للإسلام في الشرق والغرب ، وكأن الله أوجدها لأن دولة بني العباس قد شاخت ليرجع بها للإسلام فتوته .
التفاؤل ديدن الحبيب
ولقد أرشدناصلى الله عليه وسلموعلمنا كيف يكون التفاؤل في أقسى الظروف والأحوال ، فهاهوصلى الله عليه وسلموهو يحدث عائشةرضي الله عنهاويجيبها عن سؤالها :- هل مرّ عليه يوم أشد من يوم أحد فقال :- لقد لقيت من قومك - وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة- إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، فناداني ، فقال :- ( إن اللهعز وجلقد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال ، لتأمره بما شئت فيهم ، قال :- فناداني ملك الجبال ، وسلّم علي ، ثم قال :- يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت ؟ ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ ، فقال له الرسولصلى الله عليه وسلم:- ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً )رواه مسلم .
أي تفاؤل أعظم من هذا التفاؤل ؟! ، يخرج هائماً على وجهه من شدة ما يلاقي من قومه ، ومع ذلك يقول لملك الجبال تلك المقالة ، إنها تدل على قوة إيمان ، وثقة بالنصر، وبُعد عن اليأس ، وأمل مشرق ، وتفاؤل لا يحدّه حدّ ، فلم تكن تلك الظروف المحيطة به - مع ما فيها من آلام وأحزان- لتحول بينه وبين هذا الأمل، واستشراف المستقبل ، وحسن الظن بالله .
وحياته تعلمنا التفاؤل
ولأن حياة الرسولصلى الله عليه وسلمعلمتنا التفاؤل ، فقد هبط وحده من قمة غار حراء مستقبلا تباشير دعوته الأولى ثم تحرك بها بين الناس وحده رويدا رويدا ، فلم تلبث أن عمت الجزيرة العربية عند وفاته ، ثم عبرت القارات القديمة كلها حتى أعماق الصين والهند وأواسط أوروبا ، وأدغال إفريقيا في أقل من قرن مضى على وفاته ، ثم ها هي تمتد الآن ليصدق بها ما يقارب المليار ونصف المليار من الخلق في كل قطر من أقطار المعمورة ، وما من يوم يمر إلا ونسمع عمن أعلن إسلامه ، ما بين طبيب شهير وعالم بارز ، ومهندس نابغ ، وكاتب قدير ، ومفكر كبير ، وصار الناس في الشرق والغرب متعطشين لمنهج الإسلام لا يمنعهم من اعتناقه إلا افتقادهم لمن يرشدهم إليه ؛ مما جعل زعماء الملل الأخرى ينتفضون خوفا على معاقلهم ، ويصرحون على الملأ أنهم يخشون من أن تتحول أوروبا يوما ما إلى الإسلام ، فأي شيء يبعث على الأمل أكثر من ذلك ؟!
تربية لابد منها
إن تربية النفس على التفاؤل في أعظم الظروف وأقسى الأحوال ، منهج لا يستطيعه إلا أفذاذ الرجال ، والمتفائلون وحدهم هم الذين يصنعون التاريخ ، ويسودون الأمم ، ويقودون الأجيال .
أما اليائسون والمتشائمون ، فلم يستطيعوا أن يبنوا الحياة السوية ، والسعادة الحقيقية في داخل ذواتهم ، فكيف يصنعونها لغيرهم ، أو يبشّرون بها سواهم ، وفاقد الشيء لا يعطيه .
إننا بحاجة إلى أن نربى الأمة على التفاؤل الإيجابي ، الذي يساهم في تجاوز المرحلة التي تمرّ بها اليوم ، مما يشدّ من عضدها ، ويثبّت أقدامها في مواجهة أشرس الأعداء، وأقوى الخصوم؛ ليتحقق لها النصر بإذن الله .
التفاؤل الإيجابي
ولكن لابد أن يكون تفاؤلنا إيجابياً ، وهو التفاؤل الفعّال ، المقرون بالعمل المتعدي حدود الأماني والأحلام ، هو المتمشّي مع السنن الكونية ، أما الخوارق والكرامات فليست لنا ولا يطالب المسلم بالاعتماد عليها ، أو الركون إليها ، وإنما نحن مطالبون بالأخذ بالأسباب ، وفق المنهج الرباني .
والتفاؤل الإيجابي هو التفاؤل الواقعي الذي يتّخذ من الحاضر دليلاً على المستقبل دون إفراط أو تفريط ، أو غلوّ أو جفاء .
والتفاؤل الإيجابي هو المبنيّ على الثقة باللهعز وجل ، والإيمان بتحقق موعوده ، متى ما توافرت الأسباب ، وزالت الموانع ( ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) سورة محمد : 4 .
إذن سنفرح بالعيد !
نعم سنفرح بالعيد وقدومه مهما أحسسنا بضعفنا وقلة حيلتنا، ونكون متفائلين .
نقلا عن موقع الداعية محمود القلعاوى