د. عبدالله مرعي بن محفوظ

المحامون باعتبارهم قضاءً واقفاً وذراعاً رئيسياً لتحقيق العدل والأمن والسلام الاجتماعي، يدركون تماماً أن مسئوليتهم تعتبر مسئولية مضاعفه تجاه مكافحة الجريمة ، بالمساهمة بمنعها والحد منها ، أياً كان نوعها ومنشؤها ، ومن هذه المسئولية ينطلق ترحيب المحامين بمضمون التعميم الإداري الذي أصدرته وزارة العدل في 14 ذي القعدة لعام 1429هـ ، والذي أهابت فيه بكافة المحامين التبليغ عن أي اشتباه في قضايا غسل أموال يصل إلى علمهم بحكم ممارستهم للمهنة ، انطلاقاً مما تقتضيه المصلحة العامة وما تستوجبه طبيعة مهنة المحاماة من سعي لحفظ الحقوق العامة والخاصة (حسب نص التعميم) خصوصاً وأن هذا التعميم يأتي تطبيقاً لتوصيات مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تعتبر المملكة العربية السعودية من أهم ركائزها.
والمملكة العربية السعودية باعتبارها ضمن المنظومة الاقتصادية والأمنية والاجتماعية العالمية تفاعلت واستجابت لهذا التوجه العالمي في مجال مكافحة غسل الأموال، بعد ان تفشت ظاهرة غسل الأموال وأصبحت تقلق كافة النواحي والقطاعات الوطنية والاقتصادية ، وأصبح لهذه التجارة مغامرون ويلهث وراءها اليائسون على نطاق عام دون وازع من دين أو أخلاق أو ضمير .
إلا أن هذا الترحيب يجب أن لا يكون سبباً لإغفال ما يترتب على سياق نص التعميم من تناقض وتعارض مع بنود أساسية في نظام «المحاماة السعودي» بل ومع مبادئ متعارف عليها في أخلاقيات وآداب المهنة عموماً ، وعلى وجه الخصوص البنود والمبادئ المتعلقة بالسرية والخصوصية التي تعتبر من الأساسيات الراسخة لمهنة المحاماة والتي تعتبر المحامي (أميناً) على أسرار العميل بل وتجرم المحامي في حالة إخلاله بتلك السرية أو انتهاكه لتلك الخصوصية.
والمادة (11) من نظام المحاماة السعودي أوجبت على المحامي مزاولة مهنته وفقاً للأصول الشرعية والأنظمة المرعية والامتناع عن أي عمل يخل بكرامتها واحترام القواعد والتعليمات الصادرة في هذا الشأن ، إلا أن المادة (23) من ذات النظام لا تجيز للمحامي أن يفشى سراً أؤتمن عليه أو عرفه عن طريق مهنته ولو بعد انتهاء وكالته ما لم يخالف ذلك مقتضى شرعياً، ولا يختلف اثنان على أن تبليغ المحامي ضد عميله وموكله هو في واقع الأمر (إفشاء) لأسرار عميله وانتهاك صريح لقواعد الخصوصية والسرية التي تقوم عليها آداب وأخلاقيات المهنة خصوصاً وان البند (أ) من المادة (23) من النظام صنف التبليغ عن المعلومات في القضايا الجنائية بأنه إفشاء ممنوع ومخالف للنظام.
وحتى لا يصبح هذا التبليغ الذي تضمنه تعميم وزارة العدل سلاحاً في يد (المحامي) ، قد يستغل للضغط على العميل أو ابتزازه لأي سبب من الأسباب ، أجد أنه من الضروري إعادة قراءة سياق التعميم وتأمله ومناقشته على شكل أوسع ثم إعادة صياغته أن استدعى الأمر ، بما يحقق المصلحة العامة ويزيل أي تعارض أو تناقض مع نظام المحاماة ، وعلى سبيل المثال لا الحصر نورد التساؤلات القانونية التالية:-
أولاً: أليس من حق المحامي رفض تكليف العميل من حيث المبدأ والاعتذار عن أي قضية، وفي هذه الحالة لا يحق للمحامي القيام بالمزيد من تفحص مستندات العميل أو البحث عما يجرمه من تلك المستندات هذا إن كانت هنالك جريمة أصلاً.
ثانياً: ألا يعتبر اعتذار المحامي عن قبول القضية هو انتفاء لوجود القضية تحت يده أساساً وبالتالي لا تكون هنالك قضية أصلاً واجب التبليغ عنها.
ثالثاً: ما هي معايير (الاشتباه) الجنائي الذي أشار إليه التعميم خصوصاً وأن مجرد الاشتباه هو أمر نسبي قد تختلف معاييره وأسسه ما بين محام وآخر وقد يترتب عليها اتهام العميل بالباطل.
رابعاً: صحيح أن البند 23 الفقرة (ج ) من النظام لا يعتبر الإفشاء ممنوعاً إذا كان يترتب على ذلك الإفشاء منع وقوع جناية ، وهذا في تقديري ربما يكون الأساس الذي ارتكزت عليه وزارة العدل في تعميمها ، إلا أن ذات البند اشترط أن يكون هنالك إفصاح مسبق من جانب العميل للمحامي بوجود الجريمة أصلاً ، ألا يعتبر هذا الاشتراط بالإفصاح المسبق تجريداً للمحامي من أي حق في أخذ عميله ووكيله بالشبهات والاشتباه ؟
خامساً: ما هي طبيعة ومعايير وأسس المقتضى الشرعي المشار إليه في مطلع المادة (23) من نظام المحاماة كسبب للإفشاء ومدى تطابق هذه الطبيعة والمعايير والأسس مع المقتضى النظامي.
سادساً: لماذا ربط التعميم مسئولية المحامي بمجرد الاشتباه بوجود الجريمة ولم يربط ذلك بوجود البينة القاطعة أو الإقرار الصريح من جانب العميل بوجود الجريمة أصلاً، ألم يكن الاشتراط بوجود وثبوت البينة القاطعة أو الإقرار الصريح من جانب العميل هو أكثر قبولاً ومنطقاً من مجرد الاشتباه الذي قد يصح أو لا يصح ؟
سابعاً: كيف يوفق المحامون فعلياً ما بين مضمون التعميم عموماً وما بين أحكام النظام.
إن طاعة ولاة الأمر وما يصدرونه من أنظمة وتعليمات وتعاميم من الثوابت التي لإخلاف عليها ، إلا أن التعميم محل البحث يثير مسائل وتساؤلات كان لا بد من مناقشتها مسبقا وعلى نطاق أوسع مع اللجنة الوطنية للمحامين بمجلس الغرف السعودية في سبيل تحقيق الهدف والغاية والمقاصد المرجوة من هذا التعميم .
ختاماً إذا كان نظام المحاماة السعودي يجيز للمحامي إفشاء السر إذا اتصل بجرم واضح ، فهذا لا يخالف واجب المحامي بل يؤكد وظيفة العدالة طبقاً للشرع والنظام ، أما السر المهني فهو يختلف عن سابقه ، فهو واجب اخلاقي قبل أن يكون واجبا قانونيا وهو مظهر من الاستقلالية ينبغي على الجميع احترامها ، ولا يجبر المحامي من قبل أي سلطة على إفشاء أسرار موكله .
www.abm.com.sa

* صحيفة "المدينة" السعودية، الأربعاء 26 نوفمبر 2008م.
الرابط: (http://www.al-madina.com/node/76870)