إن من معاني الصيام تذكر حالة البائسين والمعوزين والعطف عليهم ومواساتهم بالمال والإحسان، إن القلوب التي لا يشعرها رمضان بحال إخوانها الفقراء قلوب يصدق فيها وصف المنفلوطي حين قال في كتابه النظرات: فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحاً أو متلافاً، أما الأول ـ يعني الشحيح ـ فلو كان جار البيت فاطمة رضي الله عنها وسمع في جوف الليل أنينها، وأنين ولديها من الجوع ما مد إصبعيه إلى أذنيه ثقة منه أن قلبه المتحجّر لا تنفذه أشعة الرحمة ، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان، يقول رحمه الله: لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكى واحد منهما سُقماً ولا ألما، لقد كان جديراً به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويطفئ غلته، ولكنه كان محباً لنفسه مغالياً بها فضم إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير فعاقبه الله على قسوته بالبطنة ... إلى أن قال رحمه الله تعالى: لا أستطيع أن أتصوّر أن الإنسان إنسان حتى أراه محسناً لأني لا أعتمد فصلاً صحيحاً بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة: رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهذا هو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يُحسن إلى نفسه ولا يُحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعاً ... إن المحسن منكم أيها المسلمون من يسعى في رمضان وغير رمضان لرحمة يتيم يترقرق الدمع في عينيه ألا يجد من يواسيه فقد أبيه! أو لرحمة أسرة فقدت معيلها، وضاعت خيراتها، أو رحمة كسير ومريض أقعده المرض وأجبره على نزف دموع الفقر والحاجة، أو رحمة أخ غريب بينكم، نأت به الديار عن أهلـه وذويه، ولئن بت آمناً في بيتك، معافى في بدنك، بين أهلك وأسرتك ، فإنما يعيش هو وحيداً بلا أنيس، وفقيراً بلا معين، يتابع الإعلام فيرى صورة يهودي يهدّم بيته، ومأوى أسرته، أو يسمع صوت قنبلة أطاحت ببعض أهله أشلاء مفرقة، فإن لم نكن هؤلاء فما أجدر وصف المنفلوطي بنا.
وأخيراً: رحلت العشر الأول ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل، وما بقي أكثر مما فات، فلنري الله من أنفسنا خيراً، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون، وأن تستمر دواعي الكسل، فلقيا الشهر غير مؤكدة، ورحيل الإنسان مُنتظر، والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة .
رحلت العشر وبين صفوفكم الصائم العابد، الباذل ، المنفق، الجواد، نقي السريرة، طيب المعشر فهنيئاً له رحلة العشر بخيرات كهذه، ورحلت العشر وبين صفوفكم صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عامل فأكلت ماله، أو حفنة ربا فاجتالتها دون نظر إلى عاقبة أو تأمل في آخرة . رحلت وبين صفوفكم من فاتته صلوات وجماعات وقد آثر النوم والراحة على كسب الطاعة والعبادة، رحلت هذه العشر وبين صفوفكم بخيل شحيح ، أسود السريرة ، سيئ المعشر، دخيل النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعاً في عشرهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال البقية، وجعلهم في ما يستقبلون خيراً مما ودعوا. والله المسؤول أن يصلح نياتنا، وأن يغفر لنا . مشعل بن عبد العزيز الفلاحي