يقول سبحانه وتعالى ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر)

أثارت محاضرة بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر التي القاها في جامعة ريجينسبورج بولاية بافاريا الألمانية الثلاثاء 12-9-2006 والتي كان عنوانها: "الإيمان والعقل والجامعة ذكريات وانعكاسات"، ودار مضمونها حول الخلاف التاريخي والفلسفي بين الإسلام والمسيحية في العلاقة التي يقيمها كل منهما بين الإيمان والعقل، جدلا واسعا ومظاهرات عارمة في الوطن العربي لما تضمنته من تلميحات أعتبرها المسلمون مسيئة ومهينة للأسلام وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم. " البلأد " تنشر الترجمة العربية لتلك التصريحات .
بدأ البابا المحاضرة باجترار للذكريات التي عايشها أثناء مرحلة الدراسة والعمل بالجامعات الألمانية ومن بينها جامعة ريجنزبورج، مشيرا إلى أن هذه الجامعة كانت وما زالت فخورة بكليتي اللاهوت التابعتين لها، لما لهما من دور في تعميق مفهوم الإيمان، وكيف أن جميع من في الجامعة من أساتذة وطلاب كانوا يلتقون للحوار على اختلاف التوجهات والآراء.
وقال: "هذا التماسك الداخلي للإيمان داخل هذا الكون لم يتأثر عندما قال أحد الزملاء بجامعتنا إنه من المثير للدهشة أن هناك كليتين تنشغلان بأمر غير موجود في الواقع، ألا وهو الرب".
ثم انتقل للحديث عن العلاقة بين العقل والعنف في الديانة الإسلامية والخلاف في هذا الصدد بين الديانتين الإسلامية والمسيحية، واستشهد بهذه المناسبة بكتاب يفترض أنه للإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني (1350-1425( وفي هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "حوارات مع مسلم المناظرة السابعة"، وقدمه ونشره في الستينيات عالم اللاهوت الألماني اللبناني الأصل تيودور خوري من جامعة مونستر، يعرض الإمبراطور الحوار الذي أجراه بين 1394 و1402 على الأرجح مع علامة فارسي مسلم مفترض.
وفيما يلي ترجمة عربية "نشرها موقع إسلام أون لاين" للفقرات الكاملة من محاضرة البابا المتعلقة بهذا المحور نقلا عن موقع الفاتيكان الإلكتروني باللغة الألمانية:
"تداعت هذه الذكريات إلى ذهني عندما قرأت منذ فترة وجيزة جزءا من حوار نشره البروفيسير تيودور خوري، من جامعة مونستر، جرى بين الإمبراطور البيزنطي العالم مانويل الثاني ومثقف فارسي حول المسيحية والإسلام وحقيقة كل منهما خلال إقامته بالمعسكر الشتوي بالقرب من أنقره عام 1391".
- "يبدو أن هذا الإمبراطور قد سجل هذا الحوار إبان حصار القسطنطينية بين عامي 1394 و1402، ويدل على ذلك أن مناظرته كانت أكثر توسعا من مناظرة محاوره الفارسي".
- "الحوار تناول كل ما يتعلق بشرح بنيان العقيدة حسبما ورد بالكتاب المقدس والقرآن، وركز الحوار بصفة خاصة على صورة الرب وصورة الإنسان، أو على العلاقة بين ما نسميه الشرائع الثلاثة أو نظم الحياة الثلاثة، ألا وهي العهد القديم والعهد الجديد والقرآن".
- "في هذه المحاضرة لا أريد أن أناقش هذه القضية، ولكن أريد التطرق لنقطة واحدة فقط هامشية نسبيا وشغلتني في كل هذا الحوار وتتعلق بموضوع الإيمان والعقل، وهذه النقطة تمثل نقطة الانطلاق لتأملاتي حول هذا الموضوع".
- "ففي جولة الحوار السابعة كما أوردها البروفيسير خوري تناول الإمبراطور موضوع الجهاد، أي الحرب المقدسة. من المؤكد أن الإمبراطور كان على علم بأن الآية 256 من السورة الثانية بالقرآن (سورة البقرة) تقول: لا إكراه في الدين.. إنها من أوائل السور، كما يقول لنا العارفون، وتعود للحقبة التي لم يكن لمحمد فيها سلطة ويخضع لتهديدات. ولكن الإمبراطور من المؤكد أيضا أنه كان على دراية بما ورد، في مرحلة لاحقة، في القرآن حول الحرب المقدسة".
- "وبدون أن يتوقف عن التفاصيل، مثل الفرق في معاملة (الإسلام) للمؤمنين وأهل الكتاب والكفار، طرح الإمبراطور على نحو مفاجئ على محاروه(...) السؤال المركزي بالنسبة لنا عن العلاقة بين الدين والعنف بصورة عامة. فقال: أرني شيئا جديدا أتى به محمد، فلن تجد إلا ما هو شرير ولا إنساني، مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف".
"الإمبراطور يفسر بعد ذلك بالتفصيل لماذا يعتبر نشر الدين عن طريق العنف أمرا منافيا للعقل. فعنف كهذا يتعارض مع طبيعة الله وطبيعة الروح. فالرب لا يحب الدم والعمل بشكل غير عقلاني مخالف لطبيعة الله، والإيمان هو ثمرة الروح وليس الجسد؛ لذا من يريد حمل أحد على الإيمان يجب أن يكون قادرا على التحدث بشكل جيد والتفكير بشكل سليم وليس على العنف والتهديد.. لإقناع روح عاقلة لا نحتاج إلى ذراع أو سلاح ولا أي وسيلة يمكن أن تهدد أحدا بالقتل".
- "الجملة الفاصلة في هذه المحاججة ضد نشر الدين بالعنف هي: العمل بشكل مناف للعقل مناف لطبيعة الرب، وقد علق المحرر تيودور خوري على هذه الجملة بالقول: بالنسبة للإمبراطور وهو بيزنطي تعلم من الفلسفة الإغريقية، هذه المقولة واضحة. في المقابل، بالنسبة للعقيدة الإسلامية، الرب ليست مشيئته مطلقة وإرادته ليست مرتبطة بأي من مقولاتنا ولا حتى بالعقل".
"ويستشهد (تيودور) خوري في هذا الشأن بكتاب للعالم الفرنسي المتخصص في الدراسات الإسلامية (روجيه) ارنالديز (توفي في إبريل الماضي) الذي قال إن ابن حزم (الفقيه الذي عاش في القرنين العاشر والحادي عشر) ذهب في تفسيره إلى حد القول إن الله ليس لزاما عليه أن يتمسك حتى بكلمته، ولا شيء يلزمه على أن يطلعنا على الحقيقة. ويمكن للإنسان إذا رغب أن يعبد الأوثان".
- "من هذه النقطة يكون الطريق الفاصل بين فهم طبيعة الله وبين التحقيق المتعمق للدين الذي يتحدانا اليوم. فهل من الفكر اليوناني فقط أن نعتقد أنه أمر مناف للعقل مخالفة طبيعة الله أم أن هذا أمر مفهوم من تلقائه وبصورة دائمة؟ أعتقد أنه، من هذه الوجهة، هناك تناغم عميق ملحوظ بين ما هو إغريقي وبين ما ورد في الكتاب المقدس من تأسيس للإيمان بالرب. أول آية في سفر التكوين، وهي أول آية في الكتاب المقدس ككل استخدمها يوحنا في بداية إنجيله قائلا: في البدء كانت الكلمة. هذه هي الكلمة التي كان الإمبراطور يحتاجها: الرب يتحاور بالكلمة، والكلمة هي عقل وكلمة في نفس الوقت. العقل القابل للخلق ويمكن تناقله، شريطة أن يظل رشدا. يوحنا أهدانا بذلك الكلمة الخاتمة لمفهوم الرب في الكتاب المقدس. ففي البدء كانت الكلمة والكلمة هي الرب. الالتقاء بين الرسالة التي نقلها الكتاب المقدس وبين الفكر الإغريقي لم يكن وليد صدفة. فرؤيا بولس المقدس (...) الذي نظر في وجه مقدونياً وسمعه يدعوه: تعال وساعدنا – هذه الرؤية يجب أن تفسر على أنها تكثيف للتلاقي بين العقيدة التي يشتمل عليها الكتاب المقدس وبين السؤال اليوناني".
- "اليوم نعرف أن الترجمة اليونانية للعهد القديم بالإسكندرية (المعروفة باسم السبتواجنتا) أي الترجمة السبعينية، لم تكن مجرد ترجمة للنص العبري فقط بل إنها خطوة هامة في تاريخ الوحي الإلهي، التي أدت إلى انتشار المسيحية".
- "كان هناك تلاق بين الإيمان والعقل، بين التنوير الحقيقي والدين. مانويل الثاني كان يمكنه القول، من خلال الإحساس بطبيعة الإيمان المسيحي، وفي الوقت نفسه بطبيعة الفكر اليوناني الذي اختلط بالعقيدة وامتزج بها، من لا يتحاور بالكلمة فإنه يعارض طبيعة الرب".
- "هنا يمكن ملاحظة أنه في نهايات العصر الوسيط ظهرت اتجاهات في التفسير الديني تجاوزت التركيبة اليونانية والمسيحية. فتميزت مواقف تقترب مما قاله ابن حزم وتتأسس على صورة تعسف الرب الذي لا يرتبط بحقيقة أو بخير.
- "الاستعلاء، الذي هو الطبيعة المخالفة للرب، تجاوزت المدى لدرجة أن رشدنا وفهمنا للحقيقة والخير لم يعد المرآة الحقيقية للرب، وتظل إمكانياتها غير المحدودة مخفية وغير متاحة لنا إلى الأبد. في مقابل ذلك تمسك الاعتقاد الكنسي بحقيقة أنه يوجد بيننا وبين الرب وبين روح الخلق الأبدية وبين عقلنا تطابق.
- "وختاماً فرغم كل السرور الذي نرى به الإمكانيات الجديدة التي أدخلها الإنسان، نرى أيضاً التهديدات التي تتنامى من هذه الإمكانيات. ويجب أن نسأل أنفسنا كيف يمكن أن نسيطر عليها. ولن يمكننا ذلك إلا إذا تلاقى العقل والإيمان بصورة جديدة. ومن خلال ذلك فقط يمكننا أن نكون مؤهلين لحوار حقيقي بين الحضارات والأديان الذي نحن في أمس الحاجة إليه".
"العقل الذي يكون فيه الجانب الرباني أصم والدين ينتمي إلى الثقافات الثانوية هو عقل غير صالح لحوار الحضارات. وقد قال مانويل الثاني إنه ليس من العقل أن ألا يكون التحاور بالكلمة؛ لأن ذلك سيكون معارضا لطبيعة الرب، قال ذلك من خلال منظوره لصورة الرب المسيحية، لمحاوره الفارسي.. بهذه الكلمات وبهذا البعد من العقل ندعو لحوار الحضارات مع شركائنا".



منقوووووووووووو ل المصدر