قبل عشرين عاماً كتبت مقالاً اسميته ( عصر الاختزال ) نشر في كتاب ( رؤية اسلامية في قضايا معاصرة ) .. وأريد الآن أن أتحدث عن ( عصر التكاثر ) إذ ليس ثمة تناقض بينهما على الاطلاق .. انهما وجهان لعملة واحدة اسمها التعاسة.
اختزال في الانسان وتكاثر في الأشياء ..
اختزال في روح الانسان ، ووجدانه ، وإحساسه ، وإنسانيته ، وتكاثر في عالم الأشياء .. وتطاول في العمران ، وانفجار اسطوري في التقنيات .. ومع ذلك فالإنسان ليس سعيداً .. بل إنه أخذ يفقد سعادته شيئاً فشيئاً.
إن الانسان يضيع .. ويوما بعد يوم يتسطح ، ويفقد عمقه الروحي ، وغناه الوجداني ، ويقترب من عالم الأشياء فيصير وإياها حالة واحدة ، تنمو وتتحرك وتتطاول ، ولكنها تفقد أيما بعد ديني وجودها المعنى والمغزى.
تكاثر في الخدمات .. في المقتنيات .. في الحاجات الأساسية .. في اللعب .. في وسائل الترفيه .. في الدور والقصور .. في الأموال والممتلكات .. في السلاح ووسائل الدمار .. في العلوم والتقنيات .. ومع ذلك فالإنسان المعاصر ليس سعيداً وهو يحس أكثر فأكثر بتعاسته ، وفقدانه سرّ طلاوة الحياة الضائع .. يوماً بعد يوم تحاصره الأشياء .. تضيّق الخناق عليه ، وتعزله عن رفاقه وإخوانه. عن زوجته وأطفاله .. بل حتى عن نفسه ، لكي ما تلبث أن تبني بين الأطراف سدّاً مصمتاً يصعب اختراقه .. وتمدّ حزما من الأسلاك الشائكة التي يستحيل معها العبور إلى الآخر ..
حتى الأصوات المتعالية هنا وهناك تنحبس في حناجرها فلا يكاد يسمعها أحد.
الحصار الشيئي كالطوفان .. كقدر نازل من السماء .. يصعب على البشر الوقوف في وجهه ، ومقاومته .. إنه فوق الطاقة .. لقد وضع الانسان نفسه في معادلة صعبة .. حلقة مفرغة ليس إلى الخروج منها سبيل.
اتذكّر إحدى مسرحيات الكاتب الطليعي الفرنسي ( يونسكو ) حيث يجد البطل نفسه محاصراً بالأشياء ، وحيث يزداد هذا الحصار ضراوة يوما بعد يوم ، فيعزل البطل عن كل ما حوله .. ينفيه من العالم .. حتى صراخه لا يكاد يستمع إليه أحد .. فالأشياء تملك القدرة ليس فقط على تغييب الانسان ، بل على تجريده من قدرته الصوتية كما يحدث في الأحلام والكوابيس ..
اتذكّر أيضاً ( ليوبولد فايس ) في ( الطريق إلى مكة ) وهو يدين الحضارة الغربية في لهاثها المحموم وراء التكاثر بالأشياء ، وينعى على الانسان الغربي بؤسه وتعاسته ، وفقدانه سرّ طلاوة الحياة الضائع .. " كنت أرى وجوههم متغضنة بأكثر مما يجب ، وكنت المح جيداً نظراتهم الزائغة .. انهم ليسوا سعداء على الاطلاق .. وحينذاك رحت اتلو على زوجتي ( إلسا ) سورة التكاثر : ( الهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر . كلا سوف تعلمون . ثم كلا سوف تعلمون . كلا لو تعلمون علم اليقين . لترونّ الجحيم . ثم لترونّها عين اليقين . ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) .. كنا نرتجف معاً دهشة وتأثرا ، ونحن نوغل في مضامين هذه السورة وفي تعبيرها المدهش عن مأساة الانسان ".
إن المشكلة في اساسها ن وقد اعلن الغرب حربه على الدين والغيب والروح والإيمان واليوم الآخر .. أنه رمى بثقله باتجاه الكم على حساب النوع .. مع الظاهر على حساب الباطن .. مع الدنيا على حساب الآخرة .. مع المصلحة والمنفعة على حساب القيم .. مع مطالب التكاثر بالأشياء على حساب خفقة الوجدان ورعشة الروح.
اين هي سعادة الانسان في هذا الطوفان الشيئي ؟ وكيف يستعيد. الضائعون بعدهم الروحي المفقود ؟
لقد أصبح سطح الحياة مهندساً بشكل يثير الدهشة ، ولكن الأعماق خربة إلى حدّ يثير الرغبة في البكاء !!


بقلم / أ. د. عماد الدين خليل