موضوع طرح بجريدة الرياض يحمل في طياته العديد من الفوائد
قبل خمسين عاما تقريبا عندما طرح المفكر الجزائري المسلم مالك بن نبي مفهوم "القابلية للاستعمار" بعد استقرائه الواقع الثقافي والاجتماعي في المجتمعات التي كانت محتلة من قبل المستعمر الاجنبي.. لم يكن مجانبا الصواب.. لأنه قام بتحليل نفسية ذلك الفرد الذي أصيب بالسلبية والاستسلام لما هو عليه الواقع الاستعماري.. وفس ر مالك بن نبي ذلك الوضع بقوله: " إنه لابد من التفريق بين ماهو عائد إلى الاستعمار, وما هو عائد إلى القابلية للاستعمار.. فكون هذا الفرد غير حائز على جميع الوسائل التي يريدها لبناء وتنمية شخصيته وتحقيق طموحاتها وتفعيل دورها, فذلك هو "الاستعمار" وأما ان لا يفكر هذا الفرد في استخدام ما تحت يديه من وسائل استخداما مؤثرا , وفي بذل أقص ى الجهد ليرفع من مستوى أدائه ونوعية حياته بالوسائل المتاحة, وأما ان لا يستخدم وقته وجهده ويستسلم.. فتلك هي "القابلية للاستعمار".. وهذه القابلية هي التي تغري المستعمر باستعمار الشعوب المتصفة بهذه القابلية.. ثم يستطرد في تحليل هذا المفهوم بقوله إنه أحيانا تحدث ظاهرة عكسية فيرفض هذا الانسان القابل للاستعمار هذا الواقع.. ويسعى إلى تغيير نفسه, وتحريرها من تلك الصفات السلبية والروح الانهزامية واللامبالاة.. فكأنما هذه القابلية ت حدث على مستويين وتـحدث نتائج متناقضة" والآن وبعد نصف قرن من ميلاد هذه المقولة.. نجدها تتمثل في جانبها السلبي وهو "القابلية للاستعمار" لدى عدد من المثقفين الذين تعلوا أصواتهم الآن رافضين ومستنكرين الوقفة الشعبية المتضامنة مع الانتفاضة والمتفقة مع الروح النضالية في مختلف الأصعدة وعند كل المستويات والمواقع من خلال مقاطعة المنتج الأمريكي.

هذه القابلية للاستسلام والانهزام طغت على الخطاب الثقافي للدكتور تركي الحمد في مقالته "هل يمكن مقاطعة أمريكا؟" ويبارك هذا المقال الدكتور غازي القصيبي, ويسير في الخط نفسه د. الربعي في حواره مقابل د. محمد عبدالله الركن في برنامج بثته قناة الجزيرة .. هؤلاء كانوا صورة مجس دة للقابلية للاستعمار في مظهره المعاصر.. وإن كنت سأستعرض هنا ما جاء من وقفات في مقالة الدكتور الحمد الذي يرفض المقاطعة الأمريكية ويتفق معه القصيبي والآخر الربعي في أنها لن تجدي ولن تؤثر في الكيان الأمريكي ذلك العملاق الذي يملك مقاليد العولمة.. فكيف نقاطع المنتجات الأمريكية ونحن نسعى للانضمام لمنظمة التجارة العالمية..؟! وما أستغربه ان يمتلئ خطاب الدكتور الحمد بالتناقضات وهو المثقف الذي يفترض ان لديه ملكة استقراء الواقع واستحضار تجارب الماضي.. فبينما يوظف تجربة غاندي في العصيان المدني والمقاومة السلبية ويمج دها لأنها أعطت أـكلها.. في المقابل يرفض حتى مجرد التعبير الشعبي في مقاطعة السلع الاستهلاكية الأمريكية حتى لو كانت مشروبات غازية وهامبورجر ومسلسلات أو أفلام؟! وهي سلع يمكن الاستغناء عنها ولن تحدث الكارثة لأن البدائل يمكن توفرها إما من خلال العودة إلى الطعام الوطني والأكلات الشعبية أو سواها.. فبدلا من "ماكدونالدز" مثلا يمكن تناول "هرفي"!! إذا كان لابد من تناول شطائر اللحم وقطع البطاطس!!

والغريب ان هناك لغة تهكمية تستخف بهذا النوع من المقاطعة التي هي في يد رجل الشارع ولن يمنعه النظام أو الحكومة من اتخاذه.. هذه اللغة الاستخفافية بهذا النوع من المقاطعة, تختفي في موقع آخر عندما يرددون ان هناك عمالا سيتوقفون عن العمل في هذه المطاعم أو مصانع المشروبات الغازية.. فإذا كانت هذه المقاطعة غير مجدية.. فلماذا الحرص على التذكير بنتائجها السلبية؟ أو عدم التصريح بامتداد هذه النتائج إلى الكيان العملاق؟!

وما يراه الدكتور الحمد انه نوع من (مواجهة الليزر بسيف من خشب) .. لا ينطبق عندما تكون المقاطعة جماعية لكل المنتجات التي يمكن إيجاد بدائل لها ـ سواء على مستوى الأجهزة أو الأدوات أو الطعام ـ قد تتطلب وقتا لتحدث آلية البدائل من الدول الإسلامية التي تملك القدرة التقنية للتصنيع ولكنها تظل خطوة نحو تصحيح مواقف غير نضالية, أرغمتنا الظروف على تقبلها.

وإذا كان الدكتور تركي الحمد يرى ان المقاطعة كسلاح سياسي ليست ذات فعالية أو مستحيلة في ظل التبعية.. فإن سلاح المقاطعة الجماهيرية ـ في رأيي ـ لكل ما هو منتج أمريكي أو بريطاني ـ لدعمهما إسرائيل سياسيا واقتصاديا ـ هو البديل الآن.. فلماذا نحرم الشعوب العربية من التعبير عن موقفها الوطني الرافض لدخول المطاعم الأمريكية المنتشرة في مجتمعاتنا؟ ولماذا نقلل من هذه الوقفة الشعبية لعدم تسويق كل منتج أمريكي.. أو شرائه؟ ولماذا نحرم أطفالنا من تعزيز رفض كل ما هو دخيل على نسيجنا الثقافي, وكشف الأقنعة المزيفة عن عيونهم المبهورة حاليا بهذا البريق "العولمي" الذي لا يرغب غيابه الدكتور الحمد؟

لسنا عاطفيين وأنتم العقلاء.. ولكن ليس بمقدورنا كأفراد إلا هذه المقاطعة.. فلماذا تحرموننا هذه الوقفة؟ ولماذا يلجأ الدكتور الحمد إلى ربط مقاطعة السلع الاستهلاكية التي من الممكن الاستغناء عنها في حياتنا اليومية, بالسلع التي لا يمكن الاستغناء عنها في عصر مثل هذا العصر؟ ونجده يربط السفر لأمريكا للسياحة بالسفر إليها للدراسة!! ومقاطعة مشروب الكوكا كولا والبيبسي بمقاطعة المصانع الحربية!! وهكذا في كل استعراض له يتوقف عند كل مستوى من المقاطعة الذي يمتلكه الفرد العادي ويربطه بالمستوى المكبل سياسيا واقتصاديا وخنوعا.. وكأنه يحاول إبقاء الحال كما هي عليه حتى تحدث المعجزة.

وبينما يؤكد الدكتور الحمد على ان الاقتصاديات العربية النفطية وغير النفطية تشكل 5% من مجمل الاقتصاد العالمي كما يقول.. وان ما نسبته 5,3% من الناتج الأمريكي هو الذي يصل إلى العالم العربي.. وهذا يعني ان التفكير في أي مقاطعة لن تكون له نتيجة مؤثرة.. إذا كان هذا هو الواقع.. فلماذا هذا الحرص على محاربة المقاطعة الأمريكية؟ وبث روح الاستسلام لدى الروح الجماعية السائدة الآن طالما ان هذه المقاطعة من وجهة نظره ومؤيديه لن تجدي؟!

ما يراه الدكتور الحمد أن المقاطعة لابد وأن تكون قطعية وسياسية.. ويرى ان الحل هو في احترام الذات لأننا أمة لا تعني ما تقول, ولا تقول ما تعني, وهذا ما يفقدها الكثير من المصداقية والكثير من عدم احترام الذات أولا ومن ثم احترام الآخرين, ومن ضمنهم الولايات المتحدة, واننا إذا أردنا ان يكون سلاح المقاطعة سلاحا سياسيا فاعلا في مثل هذه الظروف فلابد من الالتزام به. ولا أدري كيف يتسنى لأمة لا تملك القدرة على المقاطعة الاقتصادية أو السياسية كما استعرضها في مقالته ..

كيف ستحقق احترام الذات والآخر عندما تستخدم سلاح المقاطعة السياسية؟!

إذا كان هذا صوت أحد المثقفين في عالمنا العربي.. وفي السياق نفسه كان مقال الشاعر الدكتور غازي القصيبي; الذي كان يعيش نبض الشارع, وليس ذبذبة أروقة المؤتمرات الدبلوماسية.

فما الذي يبقى للبسطاء ـ وهم في الحقيقة العقلاء ـ من قشة يتمسكون بها كي يعب روا عن رفضهم لمناخ المذلة والهوان.. في ظل هيمنة أمريكا, وظلالها على الخطاب الثقافي المنهزم؟!nora _23@anet.net.sa

ص.ب: 1798

جدة 14412

محبتكم في الله

------------------
الا بذكر الله تطمئن القلوب