"الصغيرة ملقاة على التراب، لم تلعب حتى ينهكها التعب. استراحت رغما عن أرادتها. لم تعبأ أن أمها أو اكبر أخواتها ستنهرها لأنها وسخت ثيابها، وان عليها قبل أن ترتدي أخرى نظيفة أن تستحم، بعدها ستبدو مختلفة بشعرها القصير المجعد. لم تعبأ بكل ما قد يقال لها أو عنها. بعد أن تستحم ستشم أمها رائحتها، رائحة طفولة ممزوجة برائحة صابون وشامبو معطر. كانت الصغيرة ملقاة إلى جانب الطريق. ترتدي ثياب البيت، لقد أخذها ذووها على عجل. لم يكن هناك متسع من الوقت لترتدي غير بيجامتها وقميصها القطني الملون، نفس الثياب التي تعودت أن تمضي بها ساعات النهار، قبل أن يأتي المساء، فترتدي ثيابا اكثر خفة تتلاءم مع نسيم الليل وحرارة الصيف. كل ما جرى جرى بسرعة خاطفة. ارتفعت الصرخة من الأب إلى الأم وانتقل التيار الكهربائي إلى الأطفال.
ما جرى جرى بلمح البصر. لا وقت لتغيير الثياب او استبدال بعضها على الأقل. كأن طوفانا قاتلا يزحف على العائلة. لم يكن الليل السابق ليلا كما الليالي السابقة. لم تدرك الصغيرة ما يجري تماما حولها، لم تدر ان الحرب هي الحرب، ولها لغتها المختلفة. كل ما كانت تسمعه عبارة عن أصوات قريبة وبعيدة. دوي ودوي بعضه في الأودية وبعضه الآخر على أطراف البيوت المتفرقة في القرية. عندما كانت تحدق في وجوه الأب والام والاخوة الكبار كانت ترتعد. كل ما حولها يشي بان امرا كبيرا سيحدث. أمر لا تعرف له تفسيرا. ليس في قاموس الكلمات والمفردات التي تتواصل معها ما يعبر عما تشعر به، عما يعيشه من هم حولها. كانت تبكي وتبكي كلما أدركت ان القصف الذي تسمعه اكبر من طاقتها ومن معها على الاحتمال. دارت الأمور على عجل، لم تكن تدري ما يدور بدقة، لكنها كانت تدرك أن ما يجري أمر غير مألوف، ويختلف عما تعودته. كان عليها أن تكون جاهزة في غضون لحظات لا اكثر ولا اقل.
لم تحمل معها لعبة ولم تلتفت إلى فستانها الذي ترتديه كلما قرر الأهل اصطحابها في زيارة. كان الصخب اكبر من ان تتسع أذناها له. صخب يتجاوز منزلهم العائلي، صخب يلف البيوت القريبة والبعيدة لرفيقاتها أيضا. لم تفكر، تلكأت بعض الشيء، ثم تركت للأب أن يمسكها بيده ويندفع بها الى الخارج. لم يكن لديها متسع من الوقت لتعترض او تبدي سؤالا. كل ما فعلته لم يكن اكثر من ان تلقي نظرة وداع صغيرة على بعض ألعابها وموجوداتها القليلة.
عندما خرجت من البيت متأبطة يد أبيها كان أهالي القرية، الأهالي كلهم كبارا وصغارا، يخرجون من المنازل، بعد ان تبلغوا الإنذار، إنذار بالإخلاء وفورا. لم تكن تدري زينب او دعاء او آمنة إنها للمرة الأخيرة ستكون بين مثل هذا الحشد. عندما ادار الوالد محرك السيارة اهتز الهيكل، بينما كان صندوق السيارة يرتجف. حجم الفتاة الصغير ضاع بين أجساد الاخوة والأقارب الذين تكدسوا في الصندوق الحديدي. شعرت باطمئنان نسبي بينما كانت السيارة تبتعد عن البيت في مروحين و.. يرفع جندي الامم المتحدة يديه معلنا الرفض، رفض لجوء العائلة ومن انضم اليها الى المقر الدولي. العلم الازرق يخفق دون ان يرتجف، الخارطة العالمية بما فيها من دول تنتمي الى العالم الاول او العاشر لا يرف لها جفن. يجزم الجندي بكلمة او كلمات عربية فرنسية بان لا مكان هنا. يقول ممنوع ولا مجال للنقاش، يأمر السائق بالابتعاد. يحاول الأب، الأخ، الابن أن يشرح ما يجري. توقف ولو لبعض الوقت ريثما يتوقف حجر مطحنة الموت عن دورانه.
قانا.. قانا في البال.
قانا بما هي أجساد ممزقة أمام العينين: عيني الجندي وعيون النازحين. لكن قائد السيارة لا يستطيع المتابعة، فيما الدوي، دوي المدافع وهدير الطائرات المروحية يصمان الأذان. إنذار وراءه وإنذارات أمامه. يرتبك السائق. يرجع إلى البيت أم يتابع. الموت من أمامك والموت من ورائك وفوقك وتحتك، وأنت وحيد الطرقات الموحشة المزروعة برعب النهايات القريبة. يقرر المتابعة."البيك آب" الصغير يئن بحمولته من الأعمار المتفاوتة. الطريق ملتوية بين بلدتي يارين والجبين. لكن قوس نصر صور الروماني ما زال بعيدا عن مرمى النظر. المثلث اقرب ويقود إلى شمع ومنها إلى... الطائرات المروحية تراقب الأرض. ترصد الطرقات. الصغيرة ترفع رأسها بين الحشد، تراها ولا تكترث. هي تعلم أنها تملك قذائف وصواريخ موجهة ورشاشات. لا تبالي الصغيرة، الكبار أيضا، الشاحنة لا تنقل صواريخ، الرؤوس واضحة وكذلك الأجساد. أحدهم يلاحق المروحية بنظراته يراها تطلق صاروخها، لا يعيرها اهتماما. دوي أول وانفجار ثان.. لحظات وتتمزق الأجساد، تتفحم، تتشظى، تتناثر.
الصغيرة تحلق بعيدا عن الآخرين، تريد أن تحافظ على جسدها الصغير، أن يتمزق، أن يتشوه، أن يتلوث قميصها بدمها. تهبط على جانب الطريق، تلقي بوجهها نحو التراب. لا تريد أن ترى اخوتها ورفيقاتها ورفاقها على ما هم عليه.. لا تدري ما يجري، فقط تغمض عينيها وتموت كأنها تحلم بطائرة ورقية تمسك يدها الصغيرة بخيط حركتها في سماء زرقاء كالحبر.
مروى العبدالله الناجية الوحيدة من مجزرة مروحين والتي ذهب ضحيتها 25 شهيدا
وللعلم ان بلدة مروحين الجنوبية جميع سكانها من أهل السنة والجماعة
الروابط المفضلة