من قصص شهداء بلاد الرافدين؛ أبو أسامة المغربي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي كتب العاقبة للمتقين، وجعل الخِذْلان حَظّاً للكافرين والمرجفين.
زارني شيخ عزيز فاضل في داري، ولما علم أنني كنتُ تَشَرَّفتُ بصحبة عدد من شهداء بلاد الرافدين طلب إليَّ أن أَُسَطِّر بعض ما يمكن عنهم، وعلى قِلَّة بضاعتي وعَجْزِ بياني كان لِزاماً عليَّ أن أجيبه لأن مثله لا يُرَد. وسرد قصص الأبطال وتراجمهم مَدعاة لرفع الهمة وتسلية القلوب ودفع الشباب للائتساء بكريم صفاتِهم ونبيل فعالهم، من باب:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
وليعلم الناسُ أن رحم النساء لا يزال وَلوداً، وأن الأمهاتِ يَلِدْنَ أبطالاً يُذَكِّروننا بخالدٍ وموسى والمثنى. وبادئ ذي بَدْءٍ أُحِبُّ أن أقول: إنه خلال عِشرتي لكثير من الشهداء سواءٌ أولئك الذين قضَوا نَحْبَهم في ساحات الوغى أو ذاك الصنف العجيب من البشر - أعني "الاستشهاديين" -
أقول: تبين لي أنهم لا يخرجون عن هذه الصفات فقد تجتمع في أحدهم أو يَتَمَيَّز بواحدة منها - وهو الغالب -:
أ) اجتهاد عجيب في الطاعات من كثرة صلاة وصيام وخاصة قيام الليل وخدمة الإخوان وذلة لهم، (أذلة على المؤمنين)، وغير ذلك من جميل المحامد ولطيف الصنائع.
ب) سلامَةُ الصدر وسَجِيَّةُ الطبع، وهذا الصنف من الشهداء عجيب إذا رأيته تظنه أنه ولد لِتَوِّهِ من صفاء روحه وخِفَّةِ ظله وجميل عشرته وسهولة صحبته.
وغالب صفات هؤلاء خمول الذكر إذا سئلوا لم يُعطَوا وإذا حضروا لم يُعلموا إذا غابوا لا يُسأل عنهم وعلى الجملة لا يُؤْبه بهم.
ج) عقيدة صافية وعزيمة فولاذية، شعارهم ومبدؤهم في الحياة؛ (أوثق عُرَى الإيمان الحبُ في الله والبغض في الله) .
قال لي أستاذهم يوماً: (ينبغي يا أخي أنه كما نتعلم أن نَذِلَّ للمؤمنين ونحبَّهم، ونقرأَ في ذلك الكتبَ ونطيلَ في سِيَرِ أولئك كالشهب ينبغي أن نتعلم أيضاً كيف نَكْرَهُ الكافر وكيف نَحقد عليه، وكيف تَهون علينا حياتنا ما دامت ستخلص الدنيا من نَتْنِ هؤلاء، لأن ذلك هو الركن الثاني من أوثق عرى الإيمان).
د) رجل أسرفَ على نفسه فَتَدَاركَتْه رحمة ربك ببعض ما كان منه من عمل صالح فجعل شعاره (ففروا إلى الله)، ولم يعلم إلا أن الله مُنْجٍ، فأقبل على الله يطلب الموت مَظَانَّه.
هذه هي أربع صفات لأربع أنواع من الشهداء حسبما ظننت، والله وليُّ التوفيق.
وإليك باكورة هؤلاء:
* * *
1) أبو أسامة المغربي:
ذاك الجبل الصامت والقلب الدافئ والإيمان الصادق والجَرد الواضح، كان حبيبي أبو أسامة قليلَ الكلام دائم الصمت قليل الخلطة حُبِّبَت إليه العزلة، أنيسُه القرآن، كأنه بينه وبين الله سر.
من المغرب من أقصى الشمال من مدينة طنجة شابٌّ في مُسْتَهَلِّ عُمْرِ الزهور في السادسة والعشرين من العمر - عفواً كان في السادسة والعشرين - يمتلك مع أبيه مطعماً فخماً يدُرّ دخْلاً لا يَقِلُّ عن ثلاثةِ آلافِ دولارٍ شهرياً، اشترى قطعة أرض وَتَزَوَّجَ قبل مجيئه إلى أرض الجهاد بست سنوات لكنه لم يرزق بولد.
سئم القراءة عن الجهاد وعِزِّه وهو بعدُ لم يفعل شيئاً، قرر الحبيب أن يذهب إلى ساحة من ساحات العز لكنه لا يعلم أحداً يوصله إلى ذلك ولا رفيقاً يساعده ويكون معه، باع قطعة الأرض وحجز تذكرةَ سفرٍ لدولةٍ عربية وعزم على السفر وشعاره (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل).
وفجأة جاءت إليه أمه وزوجه تزف إليه خبراً طالما حلم بعزفه وأنشودته وتمنى سنيناً أن يسمعه: (زوجتك حامل)، ذرفت دموع الفرح ثم اختلى بنفسه يحدثها؛ "يا ويحكَ هذا أول البلاء فامضِ إلى ما عَزَمْت وإياك من النقمة بعد النعمة".
ومضى في عزمه يُعِدُّ الراحلة ويتزود لسفره، وسافر إلى تلك الدولة، ولا يَعْرِف أحداً وليس معه أحد، وأَخَذَ يدورُ من مسجدٍ إلى مسجدٍ ويُطيل الجلوسَ في المساجد ويُكْثِرُ الدعاء ويَذْرُف الدموع إلى الله عساه يهديه إلى من يوصله إلى طريق من طرق الجهاد، وفي إحدى المرات سمع شباباً يتكلمون بلهجته فتعارفوا وفاتحهم بعد أن ظن منهم ومن سَمْتِهم أنهم مجاهدون أو في طريقهم إلى ذلك، وصدقت فراسته واحتملوه معهم إلى بلاد الرافدين وكان أمير المجموعة "أبو خباب الفلسطيني" رحمه الله الشهيد البطل لعلنا نعود إلى سيرته لاحقاً.
أقول: وصلت المجموعة إلى بيتي وفي ليلة من أجمل ليالي العمر جلسنا جميعاً وتذاكرنا البيعات وتذكرنا بيعة الصحابي الجليل عكرمة بن أبي جهل لما بايع أصحابه في معركة اليرموك على الموت، فمددنا أيدينا وتبايعنا على الموت والجهاد في سبيل الله.
وجاء وقت الوفاء، وطُلب منا عمل ضد مبنى الأمم المتحدة، وإن كان قد ضُرب قبلَها بشهر إلا أنه ما زال العمل فيه مستمراً وتَبَقَّى من موظفيه ما يقارب مائة شخص يخدمهم عدد ضخم من الشرطة حديثة التكوين.
وتَمَّتْ مراجعة المكان وكيفية ضربه ونوعية السيارة الممكن استخدامها وكمية المتفجرات اللازمة والطرق البعيدة عن السيطرات وإلى غير ذلك.
وكان أبو أسامة أصدق المتابعين وأكثرهم إلحاحاً على سرعة التنفيذ وكان قد كلفنا الاتصال على أهله، وإذا بأمه تبشرنا أن ولدها رزق بولدِ وأسمته "أسامة" على رمز أهل السنة والجماعة - أعني بن لادن -
وذهبْتُ إلى البيت الذي فيه أبو أسامة أحمل في ذهني هم العملية وأسلوب تنفيذها، واختليت بأخي وأخبرته أنه قد تم اختياره ليكون هو المنفذ لها، ففرح وطار وضحك، وأوصاني أن يبقى الأمر سراً بيني وبينه ولا يعلمه أحد من الشباب حتى يتم، فوعدته بذلك ودخلنا وجلسنا مع الشباب, إذ بي أتذكر أني أحمل له بشرى أنه رُزق بولد أسمته أمه "أسامة".
قلت: "سبحان الله كيف أقول له، ومنذ دقائق كلمته على الاستشهاد؟!", فاستخرت واستعنت بالله ثم بشرته, ففرح ثم خلا بي وقال بالحرف الواحد: (كنت منذ أن استيقظت مسروراً وعلمت أن خبراً مفرحاً سيأتي، فو الله ثم والله للأول أحبُ إليّّ من الثاني).
وجاء يوم التنفيذ فأحضرْتُه إلى بيتي وحتى يختلي بنفسه ليلة التنفيذ بعيداً عن الشباب وأقبل على ربه يصلي ويدعو ويبكي، وجلستُ خلفَه أَمْلأ العين منه، ثم قلت له - وذلك في حوالي الثانية ليلاً - : (أسامة استرح قليلاً - نام شوية -)، فنام... ولم أنم، ونظرت إلى وجهه فكان والله أجمل من القمر يتهلل فرحاً، فمسكت قلمي وجلست أكتب وأنا أنظر إليه تلك الأبيات :
* * *
علمني يا شهيد:
علمني كيف أكون شهيداً علمني كيف أموت حميداً
علمني كيف أَدِينُ لربي أدع الدنيا هناك بعيداً
علمني كيف أودع أهلي جلداً صبوراً كالجبال صموداً
علمني كيف أعوف بنيَّ غضاً طرياً في الحياة جديداً
أذر الأحبة للرحيم يقيناً غير الرحيم من يعين وليداً
فقل لي بربك يا شهيد معلماً أكنتَ يوماً للحياة مريداً
وقل لي بربك يا حبيب مبشراً ماذا رأيت للشهيد حصيداً
وجهُك نورٌ لا يَمَلُّ ناظره قولُك حقٌّ والدليل شهيداً
صمتك فكرٌ لا تحب سفاسفاً هَزْلُك جِدٌّ في الأمور بعيداً
فارقد أُخَيَّ قريرةً أجفانك لا خوف عليك بعدُ أكيداً
* * *
وفي الصباح كان من المفترض أن أذهب معه حتى نرى الهدف لآخر مرة قبل التنفيذ وهل جدَّ عليه شيء. فقلت له: (يا ابا أسامة خذ قميص هذا أحسنُ لك، واخلع قميصك)، وكان هدفي أن آخذه لي لأسباب - ليس لي فيها بدعة إن شاء الله - وانطلقنا سوياً، ولما رأى الهدف وجدنا العدو فعلاً زاد حاجزاً مهماً، فقلت: (هل يعيقك للدخول؟)، قال: ( لا! أنا الحمد لله أتجاوزه بسهولة)، فظللت أذكره بالله وأن الموضع موضع نصرة، وأُلَمِّح له أن يتماسك، فعلم مرادي وأني أريد أن أسمع منه كلمة تطمنني، فقال لي كلمة ينبغي أن تشكل بالذهب.
قال: (اعلم يا شيخ لو أن الموت هاهنا - وأشار إلى حجرٍ أمامنا - ولا أستطيع أن أذهب إليه إلا زاحفاً لزحفت إليه، فاطمئن).
ثم رجع واستلم عروسه – سيارته - وطار بها أمامي وأنا أمشي خلفه بسيارتي، وكان يوماً مزدحماً، فأخذ يناور بين السيارات كأنه في حلبة مسابقة يريد أن يكون الفائز الأول، فلم أستطع أن أتمالك نفسي فخارت قواي وهطلت دموعي وأوقفت سيارتي، ورأيته يبتعد عني ويقترب من هدفه، وإذا به يستقر في قلبه لينتزع قلوباً مجرمة, فينعم ويشقون ويصعد ويهبطون، ورأيت عمود النار يرتفع في السماء عشرين متراً تقريباً مع صوت يصم الآذان، وإذا به يحصد خمسين كافراً يحادون الله ورسوله.
فرحمة الله عليك يا أبا أسامة.
بقي أن أقول:
إن أبا أسامة كان قد جهز نفسه - أي دفع ثمن السيارة التي نفذ بها من ماله الشخصي - فخرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء، وهذه أسمى أنواع الشهادة.
وعلى إثر هذه العملية؛ قررت الأمم المتحدة أن تغادر بلاد الرافدين نهائياً وتعزم على عدم العودة إليها، إلا إذا توافرت لها الدواعي الأمنية المناسبة.
ونقول بدون قسم؛ لئن عادوا لنعودن ولن نزيد، والله الموفق.
أسأل الله أن يجمعنا به ولا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده... آمين.
بقلم؛ أبي أيوب المهاجر
الروابط المفضلة