غريب هذا الإنسان.. فهو حاكم غير عادل، لأنه غير قادر على التجرد من الذات، من الحب المطلق للنفس، من التحيز لصالحها، من تحريم الغير، وتبرئة الذات..
وعندما يتنبه لهذه الحقيقة، فإنه يخطئ طريق العدل أيضا.. فلا ينتصر للحقيقة، ولا يكون مع الحق.. بل إنه يكون ضد نفسه.. وضد حقوقه، وضد من حوله، وضد كل ما يمكن أن يؤول إليه.. أو يمت له بصلة، لمجرد أن يثبت للناس.. لنفسه.. للبشر.. إنه إنسان عادل، إنسان عاقل، إنسان منصف.. إنسان متوازن..
إن كثيرا من موازين العدالة تضيع بين إفراط الإنسان في حب نفسه، وبين تفريطه في الانتصاف للآخرين على حساب هذه النفس.. وضد أبسط حقوقها..
فليس أصعب من أن يضع الإنسان نفسه أمام محكمة العقل.. محكمة الضمير.. محكمة النفس.
ذلك أن العقل صارم في أحكامه، والضمير حذر في موازينه، والنفس قاسية في ممارساتها، وبالتالي فإن الإنسان يخرج مدانا.. مهزوما.. محكوما عليه وإن لم يكن مذنبا.
كما أن حكم الضمير النزيه صعب.. لأنه في محاولته للتجرد والعدل فإنه يجد الراحة كل الراحة في أن يضع نفسه أولا.. في قفص الاتهام، وأن يراها في وضع المتهم، ولا يسمح لأحد بالدفاع عنها.. أو التماس المبررات لتصرفاتها أو حتى القبول بالحجج والبراهين الواضحة لتحريرها من القفص وتخليصها من الإدانة.
في الوقت الذي تسلط فيه النفس العالية سيف الخوف.. والنقاء.. والطهارة.. على رقبة الذات، ولا ترتاح إلا إذا حكم عليها، وضدها، وإن كان في تلك الأحكام الكثير من الجور.. والظلم، والتجاوز..
صحيح أن هذه النماذج الكبيرة نادرة..
وصحيح أن النفس البشرية لم تتعود أن تعترف بالحقيقة.. فضلا عن أن تحكم ضد رغباتها.. وتطلعاتها.. وحقوقها.
غير أن الأكثر صحة هو: حتى هذه النفس المعجونة أنانية.. تأتي من الأفعال والتصرفات الكبيرة أحيانا.. وتقدم التضحيات الرفيعة أحيانا أخرى بدرجة تتجاوز المألوف، والمعروف، في الأحكام العادلة..
وإلا فكيف يؤثر غيره على نفسه؟.. وكيف يضحي بمصالح أسرته، وأبنائه.. وأقرب الناس إليه ليسعد الغير.. ويقدم لهم من الخدمات ما يعجزون هم عن تقديمها لأنفسهم..
يحدث هذا في حالات الصحو المضاعف.. في حالات المواجهة الحادة مع النفس.. في حالات الشبع، من إرضاء الذات البشرية على حساب الغير.. ولذلك فإن هذا التصرف المبهر، يلفت إليهم الانتباه، ويثير الدهشة، وقد يؤدي إلى غضب من حوله.. وإلى إحساسهم بأن انقلابا غير طبيعي في حياته قد وقع لصالح الغير.
إن هذا النوع من البشر يدفع الثمن غاليا نتيجة اليقظة المفاجئة.. والتضحية الكبيرة بكل شيء.. لأنه أراد أن ينصف فلم يعدل.. وعدل فلم يصب.. واقتص لغيره من نفسه.. في المكان، والزمان، غير المناسبين.. فكان الثمن.. أغلى وأعلى.. مما لو دفعه في حينه وأدانه..
وذلك أمر يدعو للحيرة، إن عدل الإنسان مع نفسه خسر نفسه ومن حوله.. وإن استجاب لدواعي النفس ظلمها.. وظلم معها الغير.. وعاش حياته مرفوضا ممن حوله..
وإن أغفل الموازين والمقاييس فإنه يلغي بذلك عقله، ويعيش لحينه، وأوانه.. ولحظته.. وعندها فلا فرق بينه وبين السائبة..
وإن فكر.. ووزن الأمور بموازين العدل.. ظلم من لا يحب أن يظلم.. إن الحياة دوامة.. لا نهاية لها، ولا يمكن الاستقرار فيها بنصف عقل.. ونصف ضمير.. ونصف إحساس.. بل بعقل كامل، وضمير يقظ، وإحساس مكتمل.. وتلك مثالية نادرة أيضا..
ونخطئ كثيرا حين نتعجل في إصدار الأحكام على الأشياء من اللحظة الأولى، من النظرة الخاطفة، من الموقف العابر..
نخطئ لأن الرؤية المتعجلة لا تستطيع أن تستوعب تفاصيل الصورة، ولا سيما حين يكون الموقف مربكا.. والنفس مضطربة.. والإحساس قلقا..
ذلك أن العين ليست أكثر من بؤرة تضيق أو تتسع بحجم الموقف.. تضيق حين لا يكون الإنسان مرتاحا، حين لا يكون هادئا.. حين لا يكون مستقر النفس.. لأنه لا يرى الأشياء من خلال حدقة العين.. وإنما يراها من خلال بؤرة الشعور.. مساحة الراحة درجة الاضطراب أو الاستقرار..
وتتسع وربما بأوسع مما ينبغي.. حين لا يكون هناك مؤثر نفسي.. حالة خاصة.. موقف صعب. يضغط على أعصابك..
فأنت ترى الأشياء كل الأشياء براحتك.. ودون أي مؤثرات.. بل إنك تراها بأكثر مما ينبغي، فتكون الرؤية واضحة، والإدراك أكثر استيعابا للصورة.. والعين أشد قدرة على التركيز.. وسبر غور ما وراء الصورة أيضا..
فأنت وهو وهي.. وأنا، نضطرب في بعض المواقف الصعبة.. وترتعد فرائصنا. ونفقد أعصابنا.. ويصبح التنفس لدينا صعبا. وضربات قلوبنا مرتفعة بدرجة غير عادية.. لمجرد أن نتعرض لموقف مفاجئ.. لرؤية إنسان بالصدفة.. للوقوف أمام شيء معين لأول مرة.. لمواجهة موقف شديد الحرج، للمثول أمام تجربة جديدة..
لماذا حدث هذا.. فإننا لا نستطيع أن نحكم على تلك اللحظة.. لأننا في حالة نفس غير عادية..فقد نصور القبيح جميلا.. والسيئ رائعا.. والعكس بالعكس، إن عيوننا تخطئ كثيرا في مثل هذه المواقف.. لأنها ليست هي التي ترى، وإنما الذي يرى هو قلبنا..
وقلوبنا في مثل هذه المواقف تفتقد الموازين.. تفتقد الهدوء.. تفتقد حالة الاستقرار.. بل وتفتقد الموضوعية.. لأنها تكون في حالة غير طبيعية، وغير مهيأة لأن تصدر أحكاما دقيقة وغير صحيحة..
بدليل أن كثيراً من أحكامنا تتغير.. عندما نمر بالموقف ذاته أو يمر بنا الموقف نفسه مرة أخرى.لأننا نكون أكثر استيعابا للمشهد.. وتعودا عليه.. وإن كانت النظرة الثانية أيضا غير كافية لإصدار حكم نهائي صحيح.. لأن بقايا الاضطراب لا تزال موجودة.. ودواعي القلق لا تنمحي دفعة واحدة.. ولكنها تظل أقل تأثرا بدرجة الدهشة التي يمر بها الإنسان لأول مرة.
فنحن لا نحب بعيوننا، حتى نطمئن إلى حكم العين من المرة الأولى.. كما أننا لا نحب بثقب القلب المتشتت في اللحظة الأولى.. لأن حالة التمزق التي تمر بنا تجعل رؤيتنا للأشياء ضبابية، مشوشة، وغير منصفة..
ولذلك فإن إصدار الحكم الفوري عقب النظرة الأولى خطأ قد يكلفنا الكثير.. قد يقذف بنا في متاهة الندم بقية عمرنا.. وقد يجعلنا نفقد الثقة في أنفسنا.. في مقاييسنا.. إلى الأبد.
فلنحذر النظرة الأولى.. فهي كالتيار الكهربائي.. يسري في أجسادنا المبللة بالعواطف، والغارقة بالقلق، وبالتالي فإننا قد نتعرض لصعقة قاتلة ومميتة.