من الحقائق التاريخية الثابتة، انه على مدى اكثر من ثمانية قرون - من القرن الثامن الى القرن السادس عشر للميلاد - لم يكن في العالم بأسره سوى لغتين يكتب بهما العلم والفلسفة، وهما: العربية في الشرق، واللاتينية في الغرب. وقد حرصت اللاتينية على ان تتغذى من التراث العربي، فترجمت كيمياء جابر بن حيان ، واخذت عن الرازى ، وعنيت برياضيات الخوارزمي وبصريات ابن الهيثم ، وطب ابن زهر .
وكما حرصت اللاتينية على ان تتغذى من التراث العربي، فقد حرصت العربية - ايضاً - على الاستفادة من العلوم والثقافات الاخرى، فبدأ الاهتمام بالترجمة التي حدثت فيها وثبة كبرى بلغت اقصى آمادها في عهد المأمون - الذي كان اكثر الخلفاء العباسيين اهتماما بالثقافة - بمفهومها الشامل - بصورة تقدمية باهرة، ففي عهده ازدهرت حركة الترجمة الى العربية عن الثقافات الاخرى، ولاسيما اليونانية، اذ ظهرت طبقة المترجمين، ووجهت البعثات للبحث عن المخطوطات الاجنبية، وعقد الاتفاقات للحصول علي هذه المخطوطات.
ومعنى هذا ان الترجمة المأمونية، كانت تسير وفقا لخطة واضحة وبرنامج منهجي معلوم، ولهذا حققت في وقت وجيز نتائج كان لها اثرها المبين في تشييد صرح الحضارة العربية الاسلامية التي اسس عليها الغرب حضارته المعاصرة.
ومعنى هذا - أيضاً - ان اجدادنا كانوا اكثر منا تقدمية وطموحا وادراكا لقيمهم الحضارية، لانهم لم يقنعوا مثلنا بالاخذ والنقل، بل تجاوزوا ذلك فتمثلوا ما ترجموه أو نقلوه من مختلف الثقافات، ثم مزجوه بما عندهم من علم كي يصنعوا من هذا المزيج الرائع حضارة زاهية كانت لها السيادة العالمية لبضعة قرون.
والحق ان اللغة العربية «لغة حضارية» ولهذا استوعبت في مدى زمني قصير نتاج الحركة العلمية المباركة التي بدأها العرب مع ظهور الاسلام الذي كان يدعو الى العلم، ويحث عليه، وما ان جاء القرن الرابع الهجري حتى اكتملت قوتها وتثبتت دعائمها، وتبادلها الباحثون في المشرق والمغرب، حتى رأيناها بين عشية وضحاها تتسع لتستوعب موضوعات الخيال والعاطفة في أدب رائق معجب، مع موضوعات الطبيعة والفلك والكيمياء والصيدلة والطب وعلوم الرياضة وغيرها.
الا انه ومنذ قرن وبعض قرن ووجهت العربية بما لم تواجه به لغة اخرى، فتعرضت من بين لغات العالم - كما يقول العقاد (رحمه اللّه) - لكل ما ينصب عليها من معاول الهدم، ويحيط بها من دسائس الراصدين لها لانها قوام فكر وثقافة وعلاقة تاريخية، وليست لغة كلام وكفى. وهكذا.. تظاهر على هذه اللغة أقوام ينتمون الى امم شتى، ويمثلون مذاهب عددا، وطرائق قددا، واعانهم عليها قوم آخرون من بينها الذين ينتسبون اليها ويتكلمون بلسانها، والكل ينتقص من مكانتها، ويشكك في قدرتها، ويود لو ظلت في محبسها، أو أن تقبع في دارها، لا تتجاوز علوم الشريعة، ولا تتخطى دائرة دروس اللغة في معاهد التعليم المتخصصة، وما وراء ذلك فهو عليها حرام، وهي منه في مكان بعيد. (كبرت كلمة تخرج من أفواههم ان يقولون الا كذبا).
ومن النادر ان نجد الآن عربيا مثقفا يملك ناصية لغته، ويحوز ملكتها، فيقدر عليها، ويستعدي ادواتها التعبيرية حيث شاء: حين يتحدث أو يقرأ أو يكتب، وذلك يرجع الى عدة اسباب منها:
1 - ضعف الأداء اللغوي، وهي قضية قديمة صار الحديث عنها من معاد الكلم ومكرور القول، ولكن حينما يتعدى هذا الضعف الى المتخصصين الذين عهد باللغة اليهم، ووضعت امانة في اعناقهم، فهذا مما يستدعي الغيرة والحمية، فاللحن في التعبير، والخطأ في التحرير، والانحراف عن الصواب في القراءة. أصبحت ظواهر مرضية شائعة لدى كثير ممن يدرسون العربية.
وغدا معلم العربية - نفسه - يعلمها من اجل وظيفته المعيشية، فلا حب يربطه بلغته، وهو حينما يعلمها لا يغرس في قلوب طلابه مشاعر الحب والحرص والغيرة والاعتزاز.
2 - والمظهر الثاني - من مظاهر الخصومة للعربية - هو اقحام الكلام الاعجمي بغير ضرورة، وهو ما يدل على ذوبان الكيان، والشعور بالدونية والانهزامية، ويتضح ذلك في الحياة الاجتماعية العامة، وفي الحياة الخاصة للافراد والاسر والجماعات فأينما نول، واينما نسر أو نتوجه، نقابل اسماء اعجمية. واجهة لدكان، أو عنوانا لشركة، أو لافتة لمؤسسة، والظاهرة تأخذ امتدادا أهوج، وانتشارا محموما، لا تتبع قاعدة أو تخضع لمبدأ أو عرف أو نظام، ومن هذه الامثلة: «نايل سنتر - كونكريت - ماكدونالد - تي. سي. كومب»، وهناك امثلة اعجمية كاملة مثال: "Marry Land - Happy Land - New Car".
وهكذا تصور الناس ان الاسم الاعجمي يحمل معنى الحضارة، وهو دليل على المدنية، وما هو في الحقيقة الا صورة موغلة في الغفلة والتخلف، فالتقدم ليس اشكالاً ولا ألواناً، ولا أسماء اعجمية غربية أو شرقية فنلهف عليها، ونستبق اليها، لتزهق روحنا، وتذيب ذاتنا، وتمسخ كياننا، وانما التقدم حقا - كما هو معروف - فكر وعلم وعمل.
وكما يقول ارباب اللغة واصحاب البيان: «ان ارتقاء اللغة بارتقاء اصحابها رهين.. وانه بغير لغة لا تكون حضارة، بل لا تكون امة، وان خطر الشعور باللامبالاة يؤدي غالباً الى مسخ روح الامة ثم انمحاقها في ظل باهت للآخرين.
والذين يحسبون ان الاسهم الاعجمي مدنية نقول لهم: ما هو من المدنية، ولا المدنية منه في شيء. فالاسم الاعجمي لن يصنع ارباحا، والاسم العربي لن يمنع فلاحا، ولكن الامة دفعت الى شعوبية جديدة تغذي روح الفرقة، وتذكي نار الفتنة، وتبقي اسباب الشقاق».
اما في الحياة الخاصة - في مجال الاسرة - فقد صار اطلاق الالفاظ الانجليزية والفرنسية - غالبا - على اولى الارحام وذوى القربى.. هو الاصل والاساس، فاستعملت البيوت الفاظاً مقابلة لالفاظ «العم والخال والعمة والخالة والجدة» فأصبحنا نرى «الأنكل، والطنط، والتيزة، والتيتة».
كما ترجمت كلمات الشكر لدى كثير من المترفين أو المتشبهين بهم، فاستبدلوا بها غالبا «المرسيه» الفرنسية، أو «الثانكس» الانجليزية.
- وما يلحق بهذه القافلة كلمات الاعتذار مثل: «سوري، باردون».
- وكلمات الترحيب أو التحية في اللقاء والوداع مثل: «هاللو، بنجور، بنسوار، باي باي!!».
- وكلمات أخرى للمجاملة أو المواساة مثل: «جودلك - هاردلك».
- وكذلك اسماء الاشخاص مثل: «انجى، سالى، هايدي».
- وبعض الالقاب مثل: «مس - مسز - مستر...».
www.iico.org
الروابط المفضلة