بسم الله الرحمن الرحيم
من الواضح أن الستائر قد أبدلت حديثا، فطرازها غير متناسق مع أساس الغرفة...
تنبهت إلى سماع إسمي يتردد.. أحدهم يوجه الحديث إلي.. غريب كيف يشغل العقل البشري نفسه بأدق الأمور الثانوية في أحرج الأوقات..
عدت بروحي أدراجها، و قلبت نظري بين الحضور بحثا عن مخاطبتي..
ضوضاء من حولي... وجوه غمرت سماتها البهجة.. دموع فرحة.. تبادل لعبارات التهنئة.. و أبصار قد شدت نحو الباب بترقب و لهفة..
رسمت على وجهي ابتسامة دون أن أفقه كثيرا مما يقال.. بيني و بين واحدة من أسعد لحظات حياتي دقاثق معدودة، فيا حبذا لو أعطيتها حقها من التركيز، و يا ليتني أخرج عن نطاق ذاتي و أشارك من حولي من المحبين تلك اللحظات الذهبية..
دقائق بطيئة، ثم فتح الباب، فدخلت ممرضة تحمله بين يديها... إبني.. عبدالله... الطفل الذي حلمت به كثيرا و انتظرته طويلا، و أكرمني الله به بعد أن كدت أفقد الأمل و سلمت و رضيت.. أغلى هدية من أكرم الأكرمين..
تابعته بنظر الأم اليقظ الحذر، و قلبها المحب المشفق إذ يتنقل من يد إلى أخرى، لا حول له و لا قوة، تمسح القبلات دموعه المستوحشة، و تعلو الضحكات و الدعوات على صوت بكائه المتقطع بعدم اكتراث؛ فبكاء الوليد ليس بذي شأن..
لحظات مرت.. لحظات مفعمة بكم هائل من أرق المشاعر المتدفقة بقوة لم أعهدها في نفسي من قبل.. ثم جاؤوا به إلي.. ما إن اعتدلت في مجلسي و مددت يدي نحوه، حتى سرت في جسدي رعشة شديدة، و تردد قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)(الأحزاب 72) في أذني، فاجتاحتني نوبة بكاء حادة... ها أنا أمد يدي لأتسلم أغلى أمانة؛ فهل أنا أهل لذلك؟؟..
شجعتني أمي باشفاق "انظري إليه يابنتي، عيناه مثل عينيكِ تماما.."
بادلتها ابتسامتها الدافئة بأخرى تحمل ما في قلبي من تقدير و امتنان..
نظرت في عيني طفلي، فوالله كأنني أقرأ فيهما إتقِ الله فيي يا أماه..
أقسم بالله الحق، لم أشعر برهبة كتلك في حياتي.. و أي رهبة توازي تلك النابعة من إدراك أن سعادة أو شقاء فلذة كبدي هي بعد مشيئة الله بين يدي؟؟..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا)(التحريم 6)
كيف سأربيه، و على أية أسس و تحت أية ظروف و في ظل أي منهج و في كنف أية بيئة...
وصانا رسولنا عليه الصلاة و السلام بحق المولود علي والديه التي تبدأ من قبل تكوينه حتى، في ضعيف الحديث (تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس.) فهل أحسنت اختيار أبيه؟
أخبرنا القرآن الكريم في قصة الغلامين اليتيمين أن صلاح الآباء لا يضيع (....وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا...)(الكهف 82) فهل أصلحت نفسي، و أين أنا من ذلك؟
أرشدنا مربينا الكريم في أحاديث عديدة إلى آداب التربية ،و قال سفيان الثوري: ينبغي للرجل أن يكره ولده على طلب الحديث فإنه مسؤول عنه. فهل أعددت نفسي لذلك؟
أنذرنا نبينا الصادق أن (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به)(صحيح الجامع4519). فهل أموالنا خالية من أية شبهة تماااما، و أين نحن من ذلك؟
عشرات، بل مئات الأسئلة حول مسؤولية لتنوء بالعصبة أولي العزم و الرشاد...
معجزة سيدنا عيسى عليه السلام (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ)(آل عمران 46) يتكرر وقعها مع كل نظرة وليد في عيني أبويه؛ نظرة أبلغ من كلام اللسان؛ نظرة تحمل رسالة تذكير و تكليف لكل والدين مؤمنين.. مسؤولية جلى، لا تقتصر على تأمين منزل و مأكل و تعليم.. بل هي مسؤولية إنشاء سكن للروح قبل الجسد، و تأمين لقمة سائغة لا تشوبها شائبة، و تربية على أسس إسلامية بحتة..
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.)(صحيح البخاري5200)
مسحت الدمع من عيني، و ضممته إلى صدري بشدة، و عاهدت عيناي عينيه بأن أكون أما بحق..
اللهم ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين..
والحمدلله رب العالمين..
الروابط المفضلة