بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في يوم من الأيام..كنتُ أمشي في طريق مملوء بالحجارة وتحفه الأوساخ وبقايا زجاج مكسور..الطريق كله يمتلئ بهذه القذارة التي تشمئز منها النفس فضلا عن الحجارة التي يتعثر بها المشاة والزجاج الذي يتأذى به المارة..ومع هذا فلم يحرك أحدٌ ساكناً..!! لفت انتباهي وجود فتاة تفترش ذلك الطريق المقرف وتتجاذب أطراف الحديث مع صديقة له وكأنها لا ترى تلك القذارة!! طلبت منها أن تساعدني لنزيل بعض هذه الأوساخ ولكنها رفضت وأكملت حديثها غير عابئة بالأوساخ من حولها!!
التفت إلى شخص آخر يبدو عليه أنه مشمئز من القذارة الموجودة فاستبشرت خيراً وذهبت إليه حتى نتعاون معاً ونزيل بعض الأوساخ ونميط الأذى ونبعد الزجاج..لنفعل أي شيء ولوكان بسيطاً..اقتربت منه فلاحظت تردده وحيرته..كان كلما أزال حجراً أو أبعد قذارة..نظرت إليه تلك الفتيات وضحكن ..فيتراجع إلى الوراء ويترك ما بيده..عجباً مابه!! أيرضى بهذا الوضع استحياء منهن؟!! إنه مشمئز بلا شك ولكنه.. لكنه..متردد..خائف..أو ربما..خجول من نظرات الفتيات!!
ساءني المنظر كثيرا .. تلفت يمنةً ويسرةً علي أجد معيناً يمد إلي يده ونزيل القليل القليل من هذه القذارة المنتشرة..وتعجبت لحال الفتاتين..كيف رضيتا الجلوس وبكل جرأة في مكانٍ وسخ كهذا..بل كيف لم يحركا ساكنا!! وأخذت أسأل نفسي:كيف تغاضتا عن دناءة المكان؟! وكيف استحملتا هذه الرائحة؟! وكأن الأمر لا يعنيهما!!كيف وهما تتوسدان القذارة نفسها ومع هذا فهما منهمكتان في حديثهما غير عابئات بشيئ!!
وفي غمرة تفكيري..سمعت صوت رجل آخر يكبر الأول في السن يبدو على هيئته الطهر وتظهر النظافة على محياه وشكله..كان ينادي في الموجودين ويطلب منهم أن يقوموا بتنظيف المكان ولكنه هو نفسه لا يقوم بفعل شيء.. يبدو أنه يخاف على ثوبه من الاتساخ ..إذن فلم لا يبدأ بنفسه ويميط الأذى؟! لم لا يشمر عن ساعديه ويستهل العمل؟! ألا يخاف أن تمسه الرائحة ولو بعد حين؟؟ عجباً لحاله!!إن ظل هكذا دون حراك فسوف يصبح مثلهم بالتأكيد وسوف يمسه الأذى مهما توقاه..
زدت حيرة واندهاشا وعقد الاستغراب لساني!! غسلت يدي من هذا الرجل الأخير فهو يكتفي بالكلام لا غير.. والتفت فإذا بطفل يلملم بقايا زجاجة مكسورة ..إنها تجرح يداه الناعمتان..ومع هذا فهو لا يأبه بذلك!!سبحان الله.. طفل صغير ينظف بقايا أوساخ الكبار..!! إنهم لا يخجلون من أنفسهم..!! لا يستثيرهم شيء..لا تضرهم قذارة المكان..ولا تحركهم شجاعة الطفل الصغير..بل أيضاً يسخرون من كل شخص يحاول إماطة الأذى عن الطريق!!
عجباً لحال هؤلاء القوم..أليس من بينهم عاقل؟؟ أليس فيهم نبيه ؟؟ ونبهني من غفلتي شيخ وقور وكأنه فهم ماكان يدور بخلدي..فقال: ولماذا تنتظرين حتى يبدأ الآخرون؟؟ كيف تنكرين عليهم وأنت لا تحركين ساكنا؟؟ قلت: لوحدي؟؟ كيف؟؟ لا أستطيع..أريد من يأخذ بيدي ويبدأ معي..فأجابني: إن انتظرتِ أنتِ وانتظرتُ أنا وانتظر هو ,, فلن يتغير شيء..وسوف يأتي يوم لن تجدين فيه مكانا لقدمك وسط هذه القذارة؟!
تأملتُ المنظر من حولي فاشمأزت نفسي.. والتقطت أولى الحجارة ورميتها بعيدا عن الطريق..وأخذت الثانية والثالثة..ومع هذا لم أشاهد تغييراً يُلحظ..فأخذ بي اليأس كل مأخذ..فقال الشيخ مرة أخرى: استمري..واصلي.. فبداية الألف ميل خطوة..
أخذت عهدا على نفسي أن أستمر في عملي مهما صار ولو بقيت وحدي..وحين هممت بأخذ الحجرة فوجئت برجل يسبقني إلى أخذها..!! رفعت رأسي فإذا به هو نفسه ذلك الرجل الذي بدا على سيماه التردد.. ما أشجعه الآن..واصلنا العمل..وانضم إلينا كثيررروووون..كلهم كانوا ينتظرون الخطوة الأولى..!!ورأيتهم جميعا يعملون بجد ويعملون حتى صار المكان نظيفا خاليا يسر الناظر إليه..!!
وهكذا هي حياتنا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..!!
مثل الفتاة كمثل العبد العاصي الغافل لا يضره في أي وسط يحيا ولا في أي مجتمع يعيش..!! تضطرب الدنيا وتقوم وتقعد ولا يحرك هو ساكناً.. يرى الخطأ فلا ينكره.. وتحدث أمامه الجريمة فلا تهزه..وتحدث أمام عينيه الفاحشة فلا يأبه أن تمسه ريحها..وتستباح أمامه محارم الله فلا تستثير فيه مرؤة أو نخوة ولا تأخذه في الحق حمية أو غضب.لا يضره إن عاش في الوحل أو بين الطين.. يعيش في الفساد حتى أصبح هو نفسه فسادا على المجتمع..بل ويستهزئ بأهل الدعوة ورجال الهيئة ويلمز المطوعين من المؤمنين ( هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم)..فهو كما يقول عنه تعالى( عتل بعد ذلك زنيم) فأي خير نرجوه من شخص كهذا ؟! ينطبق عليه قول الشاعر:
ومن يهن يسهل الهوانُ عليهِ ما لجرح بميتٍ إيلامُ
ومثل الرجل الأول( المتردد) كمثلكِ ومثلها ومثلهم ومثل الكثير..نرى المنكر ولا نغيره خوفا وحياء من كلام الناس..نتقدم خطوة ونتراجع إلى الوراء مائة خطوة..نتمنى أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر..ولكننا نخجل..أو ربما..نضعف..أو ربما..نغفل..وهي ذاك..في كل يوم لنا عزم على التغيير وفي كل لحظة لنا قرار..ولكن بلا عمل..مجرد نية صالحة لا نتممها بالتنفيذ..نعرف الخطأ ونراه بأعيننا ونتمنى تغييره ولكننا لا نفعل شيئا..نرى المتبرجة في السوق ونسكت..ونرى الظلم ونصمت..نبكي بحرقة على الواقع الأليم ولكننا نكتفي بالدموع..
ينقصنا العزم الصادق والإرادة القوية..ومثل هؤلاء هم الأغلبية في مجتمعاتنا..وهم الفئة الخيرة التي لم يطغَ الران على قلوبهم بعد..وفي هذا يقول الشاعر:
إذا كنتَ ذا رأيٍ فكنْ ذا عزيمةٍ فإن فسادَ الرأي أن تترددا
ومثل الرجل الثاني ( صاحب الثوب النظيف)..كمثل الداعي إلى الخير وهوأبعد الناس عنه..مثله كمثل الناهي عن المنكر وهو أكبر ممارس له.. يدعو إلى الخير ولا يعمل به..يعرف طريق الحق فلا يسلكه..يقول للناس: صلوا أرحامكم وهو قاطعها منذ زمن..يقول لهم: اتقو النار ولو بشق تمرة وهو لا ينفق في سبيل الله قرشاَ..مثل هذا الشخص ينطبق عليه قول القائل:
ابدأ بنفسكَ فانهها عنْ غيها فإذا انتهيتَ عنهُ فأنتَ حكيمُ
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثلهُ عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ
ومثل الطفل الصغير كمثل ضعيف البنية قوي الهمة..تنقصه الكثير من وسائل الدعوة..ولكنه مع هذا يرى المنكر فيغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان..ومثل هذا كثير والحمد لله..العضو في المنتدى يغير المنكر بقلمه..والطالبة تنصح زميلتها التي تستمع إلى الأغاني برسالة أو نشرة دعوية
أو كلمة..لا يحقر من المعروف شيئا ولا يخجل أن يدعو إلى الله ولو بحرف واحد..وبمثل هذا تنهض الأمة وتصلح المجتمعات..ويصدق فيه قول الشاعر:
وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
ومثل الراوية كمثل نفسي..!! أنعم الله عليا بالكثير من وسائل الدعوة وتنقصني الخطوة الأولى ..!! أنتظر من غيري أن يبدأ بتغيير المنكر لأكمل أنا بعده.. أرى الفتاة تلبس عباءة الكتف وتتمختر في الأسواق..وأحزن لحالها وأتمنى نصيحتها..ولكني ..أقول لأختي: لنذهب إليها ونكلمها!! فإن قالت: ولم لا تذهبين بنفسك؟؟ قلت لها: أأذهب إليها لوحدي؟؟يسوؤني المنكر وأنتقد من لا يغضب لمحارم الله ثم أعجز أنا نفسي عن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف..لماذا..لماذا ننتظر من الآخرين حتى يبدأو؟! لم لا نبدأ بأنفسنا..ليس عيبا أن نكون وحدنا على الحق..بل العيب كل العيب هو الإتكالية والانهزامية التي نعاني منها..ألا نثق بنصر الله ؟! إذن فلم الانتظار والتأجيل؟!! وفي هذا يقول الشاعر:
ومنْ يتهيب صعودَ الجبال يعشْ أبد الدهرِ بينَ الحفر
فمن أي الأصناف أنت؟؟
الروابط المفضلة