أنا محمد عاصم، غير إن اسمي ليس محمد عاصم، أعيش في أمريكا، وأنا شخصية حقيقية، ولن أخبركم من أنا، خوفا من الهاكرز!
يا لها من مصادفة عجيبة!
ما أن تخرّج أبي من الجامعة وانتهى من الدراسة، حتى تخّرج الاقتصاد العالمي وانهار وانتهى الازدهار، ولست أدري أيهما انتظر الآخر.... سامحك الله يا أبي! أتخرجك فعل كل هذا بالإنسانية!؟
وكنت أنتظر يوم تخرّجه بفارغ الصبر، زرعنا الأحلام وانتظرنا يوم حصادها، أن يتخرج أبي ويعمل، فأكون كأي طفل ينتظر والده بشوق حين يرجع من عمله، يحمل الهدايا، ويلعب مع أبنائه، لا كما كان الحال أثناء دراسته، يحبس نفسه في غرفته ويدرس ليل نهار، وإن جلس معنا بالصدفة، حار فكره في معادلات لا حلّ لها ولا نهاية.
انهارت أحلامي مع الانهيار الاقتصادي، فعمّت البطالة، وأنتشر الفقر، وعجز الناس عن دفع أقساط منازلهم، وكثيرٌ من العمال قد انتهت خدمتهم، ولم يجد أبي عملا، ودخلنا في مشوار جديد، اسمه مشوار البحث عن العمل.
تناقشنا في المدرسة عن أسباب الانهيار الاقتصادي، فقال جيرد: أبي قال.. أن المال يوضع في البنوك على شكل هرم، وكانوا يسحبون المال من القاعدة، فانهارت القاعدة.
ولكني لم أقتنع، فما زالت الأهرام شامخة في مصر ولم تنهار كما أنهم هنا لا ينقصهم التنظيم فلو سحبوا من قاعدة الهرم بطريقة منظمة، يبقى التوازن موجود، ثم لماذا يسحبون من قاعدة الهرم لا من أعلاه!
رد بيتر: لكن أبي قال أن الاقتصاد كالبالون كانوا يضعون المال فيه ومن كثرة ما وضعوا تضخم البالون وانفجر الاقتصاد.
وهذه لن أصدقها فلو انفجر البالون لأمطرت السماء الدولارات، ولاشتريت الأجهزة التي يتفاخرون باقتنائها.
همس بأذني أحد الطلبة المسلمين في المدرسة: لا تصدقهم.. قال أبي أن اليهود هم سبب هذا الانهيار، وهم سبب مصائب الدنيا كلها.
بيتر: وأنت يا محمد؟ ما قال أبوك؟
قلت: قال بأني صغير ولن أفهم القصة.
على أي حال لم اقل يومها للطلاب أن أبي قد تخرّج من الجامعة، حتى لا يلصقون تهمة الانهيار بأبي ويربطون الفكرتين معاً، كما ربطتها أنا!
رجعت إلى منزلي الجديد ماشيا، فهو يبعد سبع دقائق عن المدرسة، ولا داعي لحافلة مدرسية،تكدّر خاطري، فبدأت أتأمل جمال أمريكا الخضراء، وتوقفت عند جدولٍ في منتصف الطريق، أنصتُّ لصوت خرير الماء، حين تتدافع قطارته وتركض بمرح، وحوله الأشجار تبتسم لهذا الجدول، وتحييه بصوت حفيف أوراقها، فتأملت المكان وكأني أودعه.
وكان حدسي صحيحا، فمرت سنه..ولم يجد أبي عملا، فقررنا الرحيل إلى بلادنا، وحزمنا أمتعتنا وبعنا أثاث المنزل, وخضعنا لعملٍ متعب في حزم الأمتعة، وتفريغ المنزل من الأثاث، وألمّت بنا أمراضٌ شتى، ارتفاع في دراجات الحرارة، فيروسات، بكتيريا، التهاب لوزتين، أدى إلى طفح جلدي!وآخرها ما سأسرد عليكم.
في أحد الأيام في المدرسة، شعرت بألمٍ في خاصرتي، استأذنت وذهبت إلى الممرضة التي ملّت من زياراتي الكثيرة لها في الفترة الأخيرة، ظنتني أكذب، ولم تتصل بأمي تخبرها عن وجعي، ثم أرجعتني إلى الفصل بخفي حنين، حينها لم أستوعب الدرس، وتمنيت لو أني أسمع جرس الانصراف، وليتني ما سمعته.
فعلي أن أرجع إلى منزلي ماشيا على قدميّ اللتان تؤلماني، مشيت الهوينى إلى المنزل، ومن الطلبة من كان يمشي مثلي، ويسأل عن سبب مشيتي العرجاء، أجيب بأني أتألم، يرمقني نظرة شفقة، ثم يمضي دون أن يمد يد المساعدة، والبعض الآخر توصله أمه في عربتها، يسأل وأجيب، أتلقى تلك النظرة، ثم يمضي! ولا تفكر أمه بأن توصلني معها، ولأول مرة شعرت بقسوة القلوب هناك.
كانت حقيبتي مثل الجبل رغم خفّتها، البرد قارص، والهواء البارد يلفح وجهي، الأرض اكتست بالثوب الأبيض، منظر الثلج جميل، فهو مشهد النقاء، ولكن البرد الذي يحمله قطعة من العذاب، أردت أن أسرع، فما طاوعتني قدماي، وشعرت أن الأرض تمتد لتبعد المسافة أكثر لتزيد من عذابي، وقد مرّت ربع ساعة، ولم أصل ربع الطريق، فدعوت الله أن يخلصني من هذا العذاب الأليم.
لمحت أمي تركض فزعة لأني تأخرت وتجرّ معها التوأم، انتبهت إلى وجهي المرهق وسألت: مالك يا محمد؟
محمد: قدمي تؤلماني، لا أقدر على المشي.
أرادت أن تحملني فرفضت، ومشيت معها ببطء، أتابع أختيّ تلعبان بكرات الثلج، غير آبهتين ببرودة، تلك الكرات، ترميان على بعضهما كتل الثلج الصغيرة، تصرخان بمرح، تمنيت أن يرحل الألم عني لألعب معهما، لكن قسوة البرد قد قرصتني، وقسوة الألم قد كوتني، وقسوة الغربة أحزنتني.
ما أن رجعت إلى المنزل الخاوي من أثاثه، حتى خارت قواي من التعب، فأردت الجلوس على الأرض، فما قدرت... أردت أن أنام فما قدرت، ملأت أمي حوض الاستحمام بالماء الدافئ لعل الألم يخف، فما قدرت أن أدخل فيه، وفجأة، اشتعلت النيران في عظام خاصرتي، ثم زاد لهيبها، فبدأت أصرخ من شدة الألم، وفزعت التوأم من حدة صراخي فبكتا، وتقطع نياط قلب أمي من الألم عليّ.
بدأت أمي تدور حول نفسها وتبكي لا تدري ماذا تفعل،إن اتصلت بالشرطة، لا تعرف كيف تتدبر أمر التوأم، وإن لم تتصل، فصوت صراخي سيغري جيراننا ليتصلوا هم، فالناس هنا لا تسمح بأن تسمع صوت طفلٍ يصرخ، كما أننا هنا في الغربة، لا أهل لنا، ولا جيران مسلمين، لا رفقة مسلمة نأنس بقربها، وأبي في مدينه تبعد ساعة إلا ربع.
زاد صوت صراخي، فاتخذت قرارها،أمسكت سماعة الهاتف واتصلت بالشرطة، فكانت تمسك السماعة تخبر الشرطي عن مرضي وهي تبكي وترتجف، فطمأنها بأن الإسعاف سيأتي بعد دقائق معدودة، ثم كالمت أبي وانهارت في البكاء، ركب سيارته ليرجع إلى المنزل، لكن..أنى يصل في الوقت المناسب، وهو في تلك المدينة البعيدة!
لحظات قليلة مرّت ودق المسعفون الباب، دخل رجل وامرأة، يحملان كرسيا متحرّك، فقالت أمي: أريد أن أذهب مع ابني إلى المستشفى.
المسعف: لا يمكن يا سيدتي، فمعك طفلتان لا يسمح لهما في دخول سيارة الإسعاف.
أمي وقد فزعت: وكيف أترك الطفل وحده؟
المسعف: آسف يا سيدتي، من المستحيل أخذ الطفلتان، هل عندك أهل تبقيهما معهما أو صديق؟
غيداء: لا...ليس لنا أهل ولا أصدقاء، وأقرب صديق يبعد أكثر من ربع ساعة.
المسعف: أرجوا أن تتفهمي الوضع يا سيدتي.
قلت فزعاً لا أدري هل أبكي من الألم أم أبكي من الفزع: كيف تتركيني وحدي يا أمي!؟
غيداء وهي تمسح دموعها: وماذا بيدي يا ولدي؟
أجلساني على الكرسي..وقبل أن أرحل قالت أمي: كن رجلا كما عهدتك، اصمد يا محمد!
حدقت بأمي وفكرت، كيف أصمد وأنا أراك تنهارين أمامي؟ ويح آبائنا يريدوننا رجالا في حين و يريدوننا أطفالا في حين أخرى!
دخلت سيارة الإسعاف وكنت أتمنى أن أستكشف ما بداخلها، إلا في هذا المناسبة، نظرت حولي مفزوعا، من المعدات الكثيرة، فأعطوني ما يخفف ألمي،فهدأ روعي، سألني المسعف مداعبا:اسمك محمد، هو اسم مشهور.
قلت وأنا أتجلد: إنه اسم أعظم رجل في الدنيا..اسم رسولنا الكريم، أرسله الله رحمة للعالمين.
وقعدت أحكي له عن ديني...
ووصلنا إلى المستشفى فأجتمع الأطباء كما يجتمع الجائع حول وليمة! وتكوم مجموعة من الأطباء حولي، هذا يسعف، وهذا يتصل بأبي ليكون في الصورة لمحة بلمحة.
وصل أبي بعد وقت طويل بسبب أزمة المواصلات، أسرع واحتضنني فقال المسعف لأبي: إن ابنك شجاع.
مسح على شعري وابتسم قائلاً: نعم هو ولد شجاع.
بالرغم من هذا كله أود أن أقول لكم جملة " حينما ينزل البلاء، ينزل الصبر والرحمة معه"، كما أنني كنت سعيدا بنهاية القصة رغم قسوتها، فكنت رجلا كما طلبت مني أمي.
صح أمر آخر..
قد تكون الأزمة الإقتصادية مٌرّة...لكن الأزمة الصحية أشد قسوة ومرارة.. أليس كذلك؟
رجعت إلى منزلي لكن بعكازين، كان مرضا نادرا وعارضا، ثم بأقل من شهر رجعنا إلى بلدنا، ركبنا الطائرة مودّعين " الغربة" تحملنا الطائرة، ونحمل ذكريات فرحة، وذكريات أخرى مؤلمة
وإلى هنا يترككم محمد عاصم ..فلقد انتهت مذكراته التي حملها من أمريكا، ولكن صفحات الذكريات لا تنتهي
ولئن كانت قصة ذكريات محمد عاصم عن الغرب قد انتهت فالكثير من أبنائنا المغتربين يحملون حكاوي أكثر من حكاوي محمد عاصم.
التوقيع
أم البنين 1977
الروابط المفضلة