على أطراف ذلك البحر الهادئ.. وقفت وحدي أتأمل شروق تلك الشمس الرائعة.. وطيور البحر تبدأ رحلتها اليومية معلنة بدء يوم جديد حافل بالمهمات والمفاجآت.. يدفعها إيمانها بخالقها وتوكلها عليه.. إنه الإحساس بروعة الحياة وجمالها.. ذلك الشعور الذي يبعث في النفس العمل من أجل الغير، والتضحية بالنفس من أجل سعادتهم..
كنت أحس بضيق يعتصرني وحزن يملأ فؤادي لا أعلم ما كنهه.. فقط أشعر بأني في حاجة إلى الترويح عن نفسي.. وبدأت أسير على الشريط الساحلي الملاصق للبحر، بينما المد والجزر يتناوبان وتلامسني بقايا الأمواج الرائعة.. كنت أبحث عن تلك الصدفة التي طالما سمعت عنها.. كانوا يقولون لي أنه يمكننا أن نستمع إلى صوت الأمواج من داخلها.. لكنني لم أجدها يوماً ما ولم أرها.. وأكملت طريقي باحثة عنها..
بعد فترة وجيزة.. بدأ الأطفال يتتابعون راكضين إلى أحضان بحري الكبير.. وضحكاتهم البريئة تملأ المكان.. تلفّت إليهم.. صغار لم يتجاوزوا السابعة من أعمارهم.. يتقاذفون بالمياه ويضحكون.. تدخل المياه المالحة في عين أحدهم فيبكي.. بينما البقية يتحلقون حوله ليروا ما به.. ضحكت في داخلي عندما تذكرت ما حصل لي..
كنت يوماً ما في مثل سنهم.. لا يشغل تفكيري سوى أن أركض وألعب مع هذا البحر الكبير.. أركض فرحة إليه فيستقبلني بأمواجه السعيدة.. أبني قلعتي الصغيرة على أطراف شاطئه فيشاكسني ليهدم جزءاً من قلعتي وأقوم غاضبة.. آخذ عصاة ملقاة في مكان ما فأرسم أحرف اسمي على الساحل معلنة امتلاكي للمكان.. لكنه يعاندني ويرسل تلك الأمواج لتمحوه شيئاً فشيئاً.. عندها أعلن هزيمتي لأرتمي فرِحة في أحضانه..
إيه يا بحري الجميل ..يالك من مخلوق سعيد.. كم أنت غامض ومليء بالأسرار.. لا يهمك شيء.. مهما بكى لديك الباكون والمجروحون، أراك كما أنت على اتساعك وعظمتك.. أتراك يا بحري تعرف ما الذي أفكر فيه؛ أم أنه لا يهمك؟؟ أتحزن مثلي وتفرح؟؟ أم أنها أمور متساوية بالنسبة لك؟؟
أحسست بحرارة الشمس تلسعني، فعرفت أنني قد مكثت فترة طويلة جداً.. تلفّت حولي أبحث عن أولئك الأطفال فلم أجدهم.. ربما قد لسعتهم حرارة تلك الشمس مثلي فهربوا إلى بيوتهم دون أن أشعر.. إيه.. كم هم محظوظون!! لم يعرفوا بعد قسوة هذه الحياة ولم يذوقوا مآسيها مثلي..
وجلست تحت إحدى الأشجار لأنعم بظلالها الوارفة والنسيم العليل.. فالطقس بدأ في التحسّن.. لا أدري لماذا أحب أن أقضي فترات طويلة على هذا الساحل.. كم أشعر براحة عظيمة عندما تحط عيناي على تلك الصفحة الزرقاء، والأفق أمامي لا نهاية له.. بينما السحب تتوالى من فوقي لترتسم أشكالا وخطوطاً خيالية متناغمة..
آه يا بحري الكبير.. كم أنت رائع.. كم أحب أن أبثك همومي وكأنك بشر أمامي.. كم أحب أن أحكي لك عن قصصي –مع تفاهتها- وكأنك تستمع إلي.. أهرب إليك من سطوة الزمن، فتمنحني الأمان.. ولكن، هل تعرف عما في داخلي؟؟ هل تعرف ما الذي أسعى إليه؟؟
إنني يا بحري، يتيمة أبحث عن أبي.. أبي.. ذلك الذي عشت في ظله أروع أيام حياتي.. سألت عنه يوماً، فقالوا لي: إنه قد رحل منذ زمن يعيد بعيد.. نعم، لقد رحل.. رحل دون أن يودعني.. دون أن يخبرني بموعد رحيله.. وربما لم يعرفه هو أيضاًً.. أوَ تعرف يا بحري، كم هو مؤلم أن تعيش من دون أب؟؟ أن تكون كطائر كسير يبحث عن عش.. كسفينة تائهة تبحث عن مرفأ.. كصحراء تستنجد السحاب قطرة مطر.. أعتذر إليك إن كنت قد أزعجتك بكلماتي.. فأنت الوحيد من دون الجميع مَن يستمع إلي..
أوَ تعرف يا بحري بماذا أشعر عندما أُسأل عن أبي.. سؤالهم يطعنني في فؤادي.. ويبدد الفرحة في نفسي.. ويسيل الدمعة على خدي.. ولكن، ما الذي يمكنني أن أفعله بيدي.. فأنا لا أملك سوى أن أبكي وأبكي وأبكي..
أوَ تذكر يا بحري تلك الصغيرة التي كانت تزورك دوماً.. لم تكن وحدها.. بل كان هناك أب معها ورفاق.. أوَ تذكر ضحكاتها المشبعة بالفرح.. أوَ تذكر صوتها عندما كانت تغني لك مع الطير.. أوَ تذكر قلعتها الصغيرة وقلمها الخشبي.. أوَ تذكر كيف كانت تجري وتمرح.. أما زلت تذكر كل ذلك يا بحري؟؟ أم أنك وضعتها في عالم النسيان؟؟أما زلت تذكر؟؟..
أنا يا بحري، تلك الصغيرة.. لا تتعجب.. فحياتنا – نحن البشر- لا تدوم على حال.. نعم.. أنا تلك الصغيرة.. لكنني الآن ما عدت صغيرة.. لقد كبرت.. وكبرت معي همومي وآهاتي وأحزاني.. حتى الفرحة لا تعرف طريقها إلى فؤادي.. أما رفاقي.. فقد تركوني.. أصبحت الآن لا أراهم ولا يروني.. لقد رحلوا.. كما رحل أبي.. وبقيت وحدي.. أُداري حزني عليهم ببسماتي.. أرقب الفجر علّه يأتني بالبشرى.. لكنني في كل مرة أنتظر شمساً تلو أخرى.. وأبعث النداء مع كل ديمة ومطرة.. لكنني لا أراها تحمل لي أي خبر وبشرى.. ولا أملك في قلبي لهم سوى الذكرى..
أحسست بدمعة ساخنة تشق طريقها على خدي بخجل.. عندها، شعرت بمن حولي.. فقد بدأ الناس يتناوبون على الساحل.. مسحت دمعتي تلك بعد أن قررت العودة من حيث أتيت.. ومشيت، على طول ذلك الساحل الذي مررت منه في الصباح.. كنت أسير بخطى واهنة وأرقب الماء الذي برَد وهو يلامس قدماي وأطراف لباسي.. كم أحب أن أفعل ذلك كلما سمحت لي الظروف..
وقفت فجأة، لأرقب ذلك الأفق المظلم من حولي وكأنني أودّعه.. والمد والجزر على حالهما يتناوبان.. تذكرت أنني جئت هنا من أجل تلك الصدفة، لكنني لم أجدها.. وكم تمنيت أن أجدها..
وظللت واقفة في مكاني زمناً ليس بالقصير.. أحسست بوخز في قدمي فنظرت إليها.. يا إلهي!! إنها صدفتي التي أبحث عنها!! هاهي.. كما وصفوها لي.. حلزونية شكلها.. متناسقة لونها.. كبيرة في حجم الكف.. قرّبتها من أذني.. هاهو صوت الموج ينبعث من داخلها.. ونظرت إلى بحري شاكرة.. عندها.. تذكرت قصتي مع ذلك الموج.. والساحل.. والصدفة..
صدى
21-1-2003
الروابط المفضلة