كذبة نيسان

إنه يوم من أيام ربيع الحب يطل علينا كل حول يحمل لنا أمانينا و أحلامنا المرسومة كل عام و يبعث فينا الأمل بغد مشرق مفعم بالأفراح و ممزوج بألوان الغرام الحالمة، إنه أول يوم من نيسان.. عليّ أن احترس من كذبة هذا العام التي لطالما استخدمتها لألهو مع أصدقائي و حتى عائلتي لم تسلم منها فكل مرة اصنع كذبة بل أكاذيب و اهديها إلى والداي، إخوتي نضال و مروان و باسل و شقيقتاي هبة و عبير و حتى جدتي لم تسلم مني .. ماذا سأقول؟ ماذا سأصنع في هذا اليوم.
آه ما يزال الوقت مبكرا، الوقت أمامي طويل يجب أن أجد كذبة مميتة لحبيبي و خطيبي صبحي سأخبره بأنني... رائع.. ماذا لو جعلتها كذبة واحدة والقيها عليهم جميعا فلا بد لي من مفاجأتهم و عدم ترك الخيار لهم بأكاذيبي المشهورة بهذه المناسبة. إذن سأقول ماذا...؟
لقد دقت الساعة الحائطية الكبيرة السادسة تماما، ما هذا الصوت لابد و أن الجدة تصلي إنها تنهض باكرا و تسخن الماء قليلا فما يزال الجو باردا رغم أننا في فصل الربيع لكن الجو لم يتغير، منذ أن وعيت على هذه الدنيا و أنا أسمع جدتي و هي تحوم في أرجاء البيت تجر خفيها بخطوات هادئة حتى لا توقظ أحدا أو ربما حتى لا يقوم أحد و يقطع سلسلة أفكارها و صلاتها مع المولى عز وجل، فهي دائمة التسبيح ليلا و نهارا خصوصا صباحا حينما تستيقظ مخلوقات الله كلها عند الفجر و تتجه إلى البحث عن أرزاقها، سبحان الله.. فجدتي تتفنن في ترديد الأفكار و لكن لا أذكر جيدا ما تقول فكلامها جميل جدا و لم أحفظ منه سوى دعاء تلح عليَّ دائما بترديه و هو دعاء كان رسولنا الكريم عليه أفضل الصلوات يقوله لابنته فاطمة خير نساء الدنيا * يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث لا تكلني إلى نفسي طرفة عين و أصلح لي شأني كله *
كم أحبك يا جدتي و كم أخاف أن يصيبك مكروه ما، لا أتصور دنياي بدونك و بدون حنانك و بدون قوة الإيمان التي تشع من ناظريك.
جدتي الغالية التي رفضت الزواج بعد استشهاد جدي على يد الصهاينة، جدتي التي ترملت في عمر الزهور.. في عمر تتفتح فيه ورود الياسمين لتعانق السماء الزرقاء و تنسج مع عبقها سيمفونية الخلود.
لم تنجب سوى ثلاثة أبناء بنتين و لد هو قرة عينها و بهجة قلبها و ماضيها و حاضرها و مستقبلها، ترى الدنيا من خلاله و تعيش من أجله .
لابد و أنها تحضر فطور الصباح فهو من اختصاصها و لم تحضره والدتي يوما رغم مرور 29 سنة على زواجها من أبي.
إنها محظوظة جدا، ليت حماتي تكون كجدتي و لا توقظني صباحا لأحضر الترويقة.
سأتصل بصبحي لا بد لي من إقناعه بزيارتنا فهو يتفادى لقاءنا في هذا اليوم بالذات فمنذ أن كنا صغارا و أنا أوقع به و أجعل الدموع تنزل من عينيه و أموت بعدها فرطا من الضحك.
- «ألا تقومي يا ميسون من فراشك؟ ضننت أنك نائمة، لدينا يوم شاق جدا، قومي الآن، أعلم بأنك تسمعينني و لست نائمة هيا. »
- «جدتي.. أرجوك إن الوقت مايزال مبكرا و أمي هي التي ستحضر كل شيء و ما عليّ سوى تحضير التبولة».
أأنهض لتحضير التبولة الآن.. !
قامت ميسون مباشرة إلى المرآة و كلمتها « يسعد لي ها الصباح» فهي جميلة جدا، ذات بشرة حنطيه و عيون كحلية و شعر أسود، ملامح عربية دقيقة، إنها أجمل جميلات قريتها القرارة التابعة لدير البلح، لم تنهي دراستها فقد فضلت البقاء بالبيت حتى تكون زوجة و ربة بيت ممتازة فخطيبها صبحي يفضلها هكذا..
إنها شقية جدا و تتمتع بروح الفكاهة، غالبا ما نجد العبوس على محياها، فهي دائمة الابتسام حتى في أعز الأزمات، استقلت بغرفة خاصة بها منذ أن كانت صغيرة ،فهي تحب الانفراد في غرفتها المزينة بأروع صور القدس و المسجد الأقصى و حتى بكنائس أرض السلام و لم تترك زاوية في الجدران إلا و علقت عليها بوستيرات نجومها المفضلين و أكثرهم الفنان وائل كفوري، ربما لأنه يذكرها بخطيبها الذي يجمع كل ألبوماته و يسمعها أرق أغانيه و أجملها و بالتحديد « بعترفلك» لأنها أجمل رسالة يسمعها حبيب لحبيبته.
* * *
بينما العائلة مجتمعة على مائدة الفطور سعلت ميسون ثم قالت:
- «لقد قررت أن أقوم بعملية استشهادية و قراري لا رجعة فيه»
مباشرة هكذا و بدون مقدمات.. اضطرب الجميع لكن سرعان ما تفطن شقيقها الأصغر باسل و ذكرهم بأن اليوم أول أيام نيسان فضحك الجميع و تفطنوا إلى أنها كذبة كل عام، كذبة نيسان التي تعودت ميسون القيام بها في مثل هذا اليوم من كل عام.
- « بما أنكم قد عرفتم بأنها كذبة أرجوا منكم عدم إخبار صبحي بالخبر حتى أقول له ذلك، أريد أن أرى تعابير وجهه عندما أخبره بذلك»
مرت الصبحية كالعادة دون أي شيء يذكر سوى تحضير الغذاء الفاخر المعد على شرف عمة ميسون وزوجها اللذان يزورانهما لأول مرة بعد زواجهما.
فقد تزوجا و سافرا إلى مصر منذ 6 سنوات، و خلال هذه السنوات لم يزورا فلسطين أبدا بسبب عرقلة إجراءات دخولهما إلى الأراضي المقدسة. فهذا هو حال الفلسطيني المهجر.. المبعثر بين الزمن.. بين انتصارات الأمس و خطيبات اليوم و آمال المستقبل.
بين الوعود الكاذبة، و التنديدات الصاخبة، و الكلمات المنمقة..
ينتظر و ينتظر و الحال على ماهو عليه، يسير دون رحمة و شفقة، و كأنه يعاندنا و يقف ضدنا مع أعداء البشرية.
سنوات مرت على نكبتنا و نحن على ماهو عليه.. متفرقين و غيرنا متحدين، مستسلمين و غيرنا متعصبين، منكسرين و غيرنا منتصرين فمتى يتغير هذا الحال الذي خنقنا.. و جردنا وطننا.. و بعثر شملنا.

مر منتصف النهار و لم يرتح احد في هذه الفترة فالجميع منشغل بالعمل الموكل إليه و كأنها خلية نحل ترقص هنا و هناك، تداعب الأزهار و الورود، تغرف من هذه و تداعب الأخرى هناك و تموج مع الرياحين و الأقحوان .
حان وقت الغذاء بوصول العمة و زوجها و استقبلهم الجميع بالترحيب و بينما هم منشغلون بالضيوف و عز فرحهم أتى نضال إلى ميسون بنبأ استشهاد صبحي على يد أحد الصهاينة.
سكن المكان ..و جمد الزمان.. و تاهت النظرات هنا و هناك و تجهمت وجوه الحاضرين، هنا.. كسرت ميسون هذا الصمت المخيف و قالت :
« لا بد و أنها كذبة نيسان» لكنه ألبس الخبر ثوب الجدية و قد اغرورقت عيناه بعبرات جامدة.
لم يكن على ميسون سوى تصديق هذا الخبر الذي كان مجرد كذبة و اتجهت مسرعة إلى غرفتها ووقفت أمام المرآة التي عايشت معها تفاصيل حبها و لحظات سعادتها فقد كانت الصديقة الوفية لها، و كاتمة أسرارها و لطالما وقفت أمامها و هي ترتدي فستان فرحها الأبيض متخيلة نفسها تتأبط ذراع حبيبها في هذا اليوم المنتظر.
كانت دائما تقول لصبحي:
- « أنت الوحيد الذي أبعدني عن المقاومة، فلو لم تكن معي لما كنت أنا هنا»
دائما تحلم بالاستشهاد و لو لم يكن صبحي في طريقها لكانت شهيدة الآن في جنة الخلد.
مر شريط ذكرياتها و بكت.. بكت كما لم تبك يوما.. بكت بحرقة و مرارة لم تذق طعمها يوما.
لملمت دموعها.. مسحت آهاتها.. استرجعت أنفاسها و هدأت أعصابها.
أمسكت بالقلم الذي كان بالقرب منها و ورقة عذراء كانت في درجها و كتبت لأهلها كلمات مؤلمة و دامية ثم تسللت و اتجهت على أول مكتب للمقاومة من أجل القيام بعملية استشهادية.
* * *
ككل الشباب الفلسطيني الذي يحلم بالاستقلال و الانتصار و بسحق كل الصهاينة الذين يدنسون الأرض الطاهرة.. كانت ميسون منخرطة بجبهة شعبية تحولت فيما بعد إلى حركة تدربت فيها و تعلمت معنى الوطن المغتصب منذ أن كانت تحدثها جدتها كل ليلة عن جدها المستشهد .
توجهت ميسون إلى مكتب الحركة و استغرق تواجدها وقتا طويلا.. بل عمرا طويلا ، و مسئول الحركة يحاول إقناعها بالعدول عن ذلك و أفهمها أنه مجرد قرار مفاجئ لن يبقى الوقت للندم عليه و لكنها قررت و السلام.
و كأي إجراءات ترافق هكذا عمليات لا بد من تسجيل شريط فيديو تقول فيه كلمتها الأخيرة لعائلتها و للناس أجمعين.
رغم أنها رفضت ذلك حتى لا تحمل عائلتها ذكريات أليمة تصاحب هذا الشريط إلى الأبد إلا أنها رضخت للفكرة.
ارتدت ميسون زيا أسودا و كحلت عيناها لآخر مرة ووضعت على رأسها إشارب أبيض و وشاح اخضر على جبهتها كتب عليه « لا إله إلا الله»
ولفت حول خصرها حزام متفجرات، و بدأت عملية التصوير و قالت:


« بسم الله الرحمن الرحيم.. إن لله و إنا أليه راجعون»
أمي الحبية، أبي العزيز، إخوتي جدتي الغالية، عمتي، أصدقائي و أبناء عمومتي....
أعلم بأنه أمر صعب عليكم لكنه قدري...
فبدل أن أزف إلى حبيبي كعروس سأزف إليه كشهيدة إلى جنة الفردوس.
هذا لم يكن بقراري بل كان قرار من سلبوني حياتي.
أهلي.. لا تلوموني و ادعوا لي بالرحمة و لتتحرر فلسطين و ليصلي من بعدي كل المسلمين و المسيحيين و ليعلوا آذان المسجد الأقصى و لتقرع أجراس كنيسة المهد و القيامة.. إن لله و إنا إليه راجعون.
قبل انطلاقها إلى حتفها صلت ركعتين و استغفرت ربها و اتجهت صوب أقرب مستوطنة و هي « كفار داروم».
* * *
وصلت ميسون إلى المستوطنة، وقفت لبرهة و استرجعت كل ذكرياتها و عاد بها الزمن المسروق من عمرها إلى مراحل طفولتها التي لم تكن كباقي أطفال العالم.
تلعب مع أقرانها جنود و عسكر.. تلعب مع جيلها بالبنادق البلاستيكية و المسدسات المزيفة بدل العرائس و الدمى المتحركة.
تذكرت حلمها الذي لم يتحقق.. تذكرت مأساة شعبها و مجازر دير ياسين و جنين.
تنهدت بعمق و استجمعت قواها و استرجعت أنفاسها و رفعت رأسها و توجهت بخطوات ثابتة إلى المعبر لكي تمر لكنهم سألوها عدة أسئلة و رغم ذلك استطاعت أن تفلت منهم، غير أن أحد الجنود ارتاب في أمرها و عاد و سألها بلهجة حادة تحمل الريبة و حين أحست بفضح أمرها و انكشاف سرها و اقتراب أجلها و في هذه الأثناء مرت دورية للصهاينة بجوار المعبر.. هنا اتخذت قرارها.. نطقت الله أكبر الله أكبر الله أكبر و فجرت الحزام الناسف الذي أدى إلى استشهادها و مقتل خمسة صهاينة و جرح العديد منهم .
كان صوت الانفجار قويا.. مدويا، جعل الجميع يهرع لمعرفة حقيقة الأمر.
تسارعت الحركة في أرجاء البيت.. الكل حضر إلا ميسون غابت عن الحضور.
بحث عنها الجميع و هنا كانت الكارثة.. ميسون لم تكن بالبيت.
انتفضت عبير من مكانها.. رمقت نضال و صبحي بنظرات تحمل الشك و الريبة و أسرعت متجهة إلى غرفة شقيقتها.
لحظات قليلة.. دوت صرخة سمعتها وحوش الغاب.. إنهزت لها قلوب الحاضرين و تلتها صرخات و آهات هستيرية جعلت الجميع يسرع إليها و هنا كانت الصاعقة.
خطف نضال الرسالة من يد أخته و قرأها بنبرات متذبذبة.. لقد استشهدت ميسون و راحت ضحية مزحة بدأت تفاصيلها بكذبة و انتهت بحقيقة مرة و لكن مشرفة.

بقلم كاتبه/ سارة لصار
نيسان 2000.
معسكر/ الجزائر